بورخيس ونيرودا في عينيّ يوسا

في حديث ماريو فارغاسيوسا الروائي البيرواني الشهير عَمّن يعجبه من الكتّاب المعاصرين أكّد أنه كان مولعاً بسارتر في مرحلة شبابه، وقرأ باهتمام للروائيين الأمريكيين، ولاسيما الجيل الضائع: فوكنر، همنغواي، فيتزجرالد، دوس باسوس، لكنّ الذي ما زال يعني له الكثير من بين هؤلاء هو “فوكنر”، فهو لا يخيّب أملَهُ عندما يقرأهُ من جديد، وهو لا يستطيعُ اليوم أن يقرأ سارتر، فقد أصبح أدبُهُ بالياً – على حد تعبيره (ووفق ترجمة د.نايف الياسين)- وفقدَ معظمَ قيمته، حتى مقالاتِهِ التي قرأها من قبل وتوقّف عندها أصبحت برأيه اليوم قليلة القيمة، وبدت كتاباتُهُ مليئة بالتناقضات، والغموض، وعدم الدقة، وهذا – وفق رأي يوسا- لا نجدهُ عند فوكنر، فقد كان أوّلَ روائي قرأهُ وهو يحملُ قلماً وأمامه أوراق لأن تقنياتِ الكتابة لديه أدهشته، وكانَ- وفق تعبيره – “أوّل روائي حاولَ شعوريّاً أن يعيدَ تركيب أعماله بمحاولةِ تتبع تنظيمه للوقت مثلاً، وتقاطع الزمان والمكان عنده، وقدرته على سرد قصّة من وجهاتِ نظر عدّة ليخلق إحساساً بالغموض”. ويستغربُ يوسّا أنّه اكتشفَ أدب أميركا اللاتينيّة وهو في أوربّا، حين كان عليه أن يدرّسه في جامعة لندن، فقرأ بورخيس جيداً وسواه، وفيما بعد ماركيز، والتقى بورخيس وحاورَهُ بمحبةٍ واصفاً إياه “بالشخصٍ ضعيفِ الجسد، ساحرِ الحضور”، ويبرّرُ ميله له من دون الكتّاب الآخرين في أميركا اللاتينيّة بقوله: “لأن العالم الذي يخلِقُهُ يبدو لي أصيلاً جداً. إضافة إلى أصالتِهِ المطلقة، فإن لديه خيالاً وثقافة خاصين به، ثمّ هناك لغة بورخيس التي تمرّدت على تُراثنا وبدأت تُراثاً جديداً. الإسبانية لغة تميل نحو المبالغة والاستطراد. لقد كان كلُّ كتّابنا العظام مولعين بالإسهاب من سرفانتس إلى أورتيغا غاسيت. بورخيس هو عكسُ هؤلاء -كُلّه اختصار واقتصاد ودقّة، وهو الكاتب الوحيد باللغة الإسبانيّة الذي يمتلك من الأفكار بقدر ما يمتلك من الكلمات” .
ويرى يوسّا مع ذلك أنّ الروائيين في أمريكا اللاتينيّة ليسوا أهم من شعرائها؛ فهناك بابلوا نيرودا، وأكتافيو باث. وتَشْعُرُ بالفرح حين تقرأ ما كتبه يوسا عن بابلوا نيرودا، الذي رآهُ عاشقاً للحياة، نهماً لكل شيء: الرسم، الفن بشكلٍ عام، الكتب بالطبعات النادرة، الطعام، والشراب؛ والطعامُ والشرابُ عِنْدَه يمثّلان تجربةً صوفيّةً، وهو وفق تعبير يوسّا: “رجل رائع، مليء بالحيوية، ومحبوب – هذا إذا نسينا قصائدهُ في مديح ستالين” . ويروي يوسّا أنّه كان محظوظاً بقضاء عطلة نهاية أسبوع في إيسلانيغرا: ” كان ذلك رائعاً! كان هناك ماكينة اجتماعيّة تعمل من حوله: عشرات الناس يطبخون ويعملون – ودائماً كثير من الضيوف. كان مجتمعاً مَرِحاً دون أيّ أثر للفكرويّة، كان نيرودا عكس بورخيس تماماً: الذي بدا وكأنّه لا يأكل ولا يشرب ولا يُدخّن، ويمكن للإنسان أن يفترض أنّه لا يمارس الجنس. كلُّ هذه الأمور بدت لبورخيس ثانويّةً تماماً، وإذا فعلها، كان يفعلُها بدافع الأدب وليس لأيّ اعتبارٍ آخر. ذاك لأن الأفكار، القراءة، التأمّل، الإبداع كانت حياته، حياته العقليّة الصرفة. نيرودا يأتي من تُراث خورخي أمادو، ورافائيل ألبيرتي الذي يقول: إن الأدب يتولّد من التجربة الحسيّة للحياة”.
ويتابعُ يوسّا حديثَهُ عن نيرودا- والترجمة أيضاً للدكتور نايف الياسين -: “أذكرُ اليومَ الذي احتفلنا فيه بعيد ميلاد نيرودا في لندن أراد أن تكون الحفلة على قارب في نهر التايمز. لحسن الحظ، كان أحد معجبيه، الشاعر الإنكليزي أليستر ريد، يسكن في قارب في النهر، وهكذا استطعنا أن ننظم الحفلة هناك. وأتت اللحظة التي أعلن فيها أنه سيحضّر لنا كوكتيلاً. كان ذاك أغلى مشروب في العالم، حيث مزج لا أعلم كم زجاجة دوم بيرغنون، وعصير الفواكه، ويعلمُ اللهُ ماذا أيضاً. كانت النتيجةُ رائعةً بالطبع. لكن كانت كأسٌ واحدةٌ كفيلةً بإسكارك. وهكذا سكرنا كلنا دون استثناء. رغم ذلك، فما زلتُ أذكرُ ما قاله لي عندها؛ شيء أثبت صحته على مدى السنوات. كانت قد ظهرت مقالةٌ – لا أذكر عمّا كانت – أزعجتني لأنها احتوت على كثير من الإهانات لي والأكاذيب عني. أريتها لنيرودا خلال الحفلة، فتنبأ لي: “لقد أصبحت مشهوراً. أريدك أن تعرف ماذا ينتظرك: كلما ازدادتْ شُهرتُكَ، ازداد الهجومُ عليك. مقابل كل مديحٍ ستتلقى إهانتين أو ثلاثاً. أنا نفسي لدي صندوقٌ مليءٌ بكل الإهانات والتشهيرات والادعاءات التي يمكن أن تُطلقَ على رجلٍ. لم يوفروا شيئاً: لص، منحرف، خائن، قوّاد… كل شيء! إذا أصبحت شهيراً لا بدّ لك أن تتحملَ ذلك”.
قال نيرودا الحق؛ كان ما تنبأ به صحيحاً تماماً. لدي الآن ليس فقط صندوق بل عدة حقائب مليئة بكل إهانة يمكن أن تخطر على بال إنسان”.

 إضاءات – د. ثائر زين الدين

آخر الأخبار
بين إدارة الموارد المائية والري "الذكي".. ماذا عن "حصاد المياه" وتغيير المحاصيل؟ شراكة صناعية - نرويجية لتأهيل الشباب ودعم فرص العمل تطوير المناهج التربوية ضرورة نحو مستقبل تعليميٍّ مستدام لجنة التحقيق في أحداث الساحل تباشر عملها بمحاكمات علنية أمام الجمهور ٥٠ منشأة صناعية جديدة ستدخل طور الإنتاج قريباً في حمص الإعلام على رأس أولويات لقاء الوزير مصطفى والسفير القضاة وزير الإدارة المحلية والبيئة يوجه بإعادة دراسة تعرفة خطوط النقل الداخلي سجن سري في حمص يعكس حجم الإجرام في عهد الأسد المخلوع ميشيل أوباما: الأميركيون ليسوا مستعدين لأن تحكمهم امرأة لجنة السويداء تكسر الصمت: التحقيقات كانت حيادية دون ضغوط الضرب بيد من حديد.. "داعش" القوى المزعزعة للاستقرار السوري من الفيتو إلى الإعمار.. كيف تغيّرت مقاربة الصين تجاه دمشق؟ انفتاح على الشرق.. ماذا تعني أول زيارة رس... تفعيل المخابر والمكتبات المدرسية.. ركيزة لتعليم عصري 2.5 مليار يورو لدعم سوريا.. أوروبا تتحرك في أول مؤتمر داخل دمشق مغترب يستثمر 15 مليون دولار لتأهيل جيل جديد من الفنيين بعد زيارة الشيباني.. ماذا يعني انفتاح بريطانيا الكامل على سوريا؟ فيدان: ننتظر تقدّم محادثات دمشق و"قسد" ونستعد لاجتماع ثلاثي مع واشنطن وفود روسية وتركية وأميركية إلى دمشق لمناقشة ملف الساحل وقانون "قيصر" رغم نقص التمويل.. الأمم المتحدة تؤكد مواصلة جهود الاستجابة الإنسانية بسوريا بين "داعش" و"قسد" وإسرائيل.. الملفات الأمنية ترسم ملامح المرحلة المقبلة