ثورة أون لاين:
لم يكن تمرد الشاعر والروائي الفرنسي “جان جينيه” على كلّ القيم في بلده، ولا دعوته إلى خيانتها في غالبية مؤلفاته، بسبب ما عاشه فيها من يتمٍ وفقرٍ وتشرّدٍ وضياعٍ وملاحقات فقط، بل أيضاً، لأنها دمرت دمشق. المدينة التي زارها وأحبها، وجال مع شبابها في كل المناطق التي جعلته يصف الجنرال “غورو” الذي دمرها:
“كان شباب دمشق يسارعون لاطلاعي على الدمار الذي ألحقته مدافع “الجنرال غورو” بمدينتهم، إلى أن صارت لديَّ رؤية مزدوجة للشخص الذي ظنَّ نفسه بطلاً.. الحقير.. المقيت.. “غورو..”
إنه ما فاقم نقمته على وطنه الذي اضطرَّ لمغادرته بعد أن رفضه مجتمعه مذ كان طفلاً صغيراً مشرداً لا أسرة ولاواقع يحتويانه.. مُذ كان طفلاً ألقي به من دور اللقطاء إلى الرصيف ومن ثم إلى السجن الذي لم يشعر باختلافه عن سجن الحياة وهوانه، وفي بلدٍ عاش بانتظار لحظة خيانته، وتمزيق الانتماء لفرنسيّته..
بيد أن هذه اللحظة قد أتت سريعاً، وعندما قرر الرحيل إلى بلدٍ آخر لم يكن إلا دمشق. المدينة التي لم يجد سبيلاً للوصول إليها، إلا عن طريق التحاقه بإحدى فرق الاستطلاع التابعة للجيش، إبان الاستعمار الفرنسي لها.
وصل دمشق ومكث فيها ما يقارب العام، ليكون ما شاهده من ثقافة أهلها ودفاعهم عن قضاياهم ووطنهم، سبباً لتهذيب فكره وتعلّقه بالعالم العربي، وانحيازه إلى ثقافته ورفضه لكلّ محتلٍ أو معتد.
دمشق التي عاش فيها أسعد أيام حياته، والتي اعترف بكونها، السبب في تفكيره القوي والجدي، باستبدال وطنه بوطنٍ يشبهها.
يهرب من خدمته ويعود إلى بلده، ليعاود حياة التشرد والضياع والسجن والتمرد.. يستمر في كتاباته، ولا يتوقف عن تدوين ما أملاه عليه وجدانه ورآه في دمشق التي غادرها شاباً قرر العودة إليها، بعد أن صار أكثر نضجاً وقدرة على امتلاك فكره وذاته.
يعود، فتكون مرحلة هامة ومحطة حاسمة في حياته الإبداعية. المرحلة التي تعرّف فيها وقبل أن ينطلق ليجوب بلاد الشام، على الكثير من المثقفين والكتاب البارزين وغيرهم ممن تركوا بصمة في حياته كما في وطنهم سورية.
نعم، لقد اختار أن يغادر وطنه إلى دمشق التي عانق فيها كلّ سورية.. الحبيبة التي كانت مقدسة لـديه، والتي أسكنها في قلب “الأسير العاشق” الذي يُعتبر من أكثر وأهم الكتب في تناوله لمعاناة وقضايا الشعوب ولاسيما العربية. أيضاً، الذي كتبه خلال إقامته التي استمرت نحو عشرين عاماً في مخيمات اللاجئين، ممن تضامن معهم ودافع عن قضاياهم التي كان أهمها بالنسبة له، قضية فلسطين.
هكذا قضى عمره، بعيداً عن بلاده التي تنكرت له وشردته وسجنته وأهانته، فغادرها رافضاً الانتماء أو الولاء لها. ذلك أن ولاءه كان للإنسان وقضاياه التي عاش بقية عمره وهو يدافع عنها ويطالب بانتصارها. يدافع بفكره وقلمه الذي لم يتوقف عن إدانته لمجازر المحتل الإسرائيلي ولاسيما “صبرا وشاتيلا” التي وثّق تفاصيلها المأساوية.. وثقها كما وثق تفاصيل المجازر التي اقترفتها أميركا التي قال عن بشاعة ما فيها من عنصرية::
“الولايات المتحدة هي مسؤولة اليوم وبشكل مباشر عن كل ما يحدث في العالم. أينما أناضل، أجد نفسي دوماً في وجه أسلحة أميركية، ومرتزقة أميركيين، وحجج إمبريالية، وعنصريين أميركيين. حقدي كبير على مجتمع «”اليانكي”، بحيث إن تقيأت فإني، على ما أعتقد، قد أتقيأ نجوم علم بلاده”.
هفاف ميهوب