راينر غرير في لوحاته وتطلعاته.. عالم غريب من صنع مخيلته الإبداعية

الثورة أون لاين-أديب مخزوم :

راينر غرير من الفنانين السوريين القلائل، الذين اعطوا اللوحة التشكيلية مناخات شرقية مميزة ومغايرة لتوجهات الفن الاوروبي الحديث والمعاصر، وهو يمنح أشكاله المرسومة المزيد من الدراية المهنية والخبرة التقنية في خطوات التركيز لإظهار أدق درجات الدقة في رسم التفاصيل الصغيرة، التي يستعيد من خلالها معطيات الواقع ورؤى الخيال.
ويمكن إدراج لوحاته في إطار الصياغات الواقعية والخيالية، التي تدمج بين العناصر والأشكال بطريقة مغايرة، للوصول الى مناخية روائية لاتنتهي، مع تتابع العناصر في سياق التشكيل الهندسي (خطوط متوازية ليس لها نهاية، ومربعات ومستطيلات ومثلثات ودوائر).. ولقد تميزت تجربته في مراحل سابقة بمناخها الواقعي ( معرضه في ثقافي المزة 1997) وقدم من خلاله مشاهد للأبنية القديمة ، وكان معرضه الأول في ثقافي حمص 1997 قد حمل عنوان “مائيات خاصة” ، ثم تنقل من تقنية الى أخرى، وصولاً إلى أعمال الرسم بألوان الأكريليك والمواد المختلفة، على القماش والورق والتصوير الضوئي، ولقد أقام أكثر من 14 معرضاً فردياً، إلى جانب معارضه الثنائية، ومشاركاته في المعارض الجماعية الرسمية والخاصة .


أيقونات حديثة
ومن خلال هذا التنوع التقني والتشكيلي كان يجاهر برموز الأزمنة ( الكنائس والأبنية القديمة والحديثة والزخارف ) التي ظهرت كهاجس رئيسي في لوحاته، إلى جانب الشجرة والأشكال الإنسانية بحركاتها الراقصة، والمقلوبة أحياناً، وفسحة السماء، بقمرها ونجومها وغيومها.. ولقد بدت لوحاته منجزة بأقصى درجات الدقة في التشكيل الرمزي والخيالي . وإذا كان في السابق قد سعى لتوجيه لوحته في اتجاه واقعي، فإنه في هذه المرحلة، يبدو أكثر التزاماً بالتشكيل الغرائبي المكثف والدقيق، الذي يتقنه ويحدده بخطوط ماهرة وواثقة ومركزة ومختمرة في سياق استعراض قدراته التقنية، والتي تجعل لوحاته تبدو وكأنها أيقونات حديثة. وأعماله الأحدث(التي تناول فيها جانحة كورونا) أكدت من جديد قدراته على ملاحقة التفاصيل الصغيرة والدقيقة، وضمن صياغة فنية تتداخل فيها الأشكال والعناصر المختلفة، التي يحشد بها اللوحة ، مبتعدا بدلك عن المساحات الواسعة والصافية .
كل لوحة لدى راينر غرير ، هي حكاية تفيض غرابة وشاعرية، هي جزء من قصة اسطورية مسحوبة من ذاكرة المدن الضائعة والمنسية، هي رؤية خيالية قادمة من بقايا العصور القديمة والحديثة معاً . رموز كثيرة تفسر معالم هذا الهاجس الذي يرافق خطواته التشكيلية، المقروءة في إيماءات الرموز ، وفي كثافة حضور الأجواء الملحمية البانورامية والميثولوجية التي تدخلنا في متاهات التساؤلات والتأويلات والاجتهادات.
وهذا التحول في معارض الأمس واليوم ، بين الواقعية، واللاواقعية يقدم الدليل على أنه يهدف إلى تطوير تجربته والانتقال بها من مرحلة إلى أخرى، على الصعيدين التكويني والتقني، ولو كان الأمر غير ذلك لاستمر على النمط الواقعي . ويمكن القول إنه ومنذ سنوات طويلة فاجأ رواد المعارض بطريقة جديدة ، اعتمدت طريقة خاصة غير مألوفة في معارض الفنانين، وبعيدة عن تقنيات الرسم بلمسات عفوية، متأثرة بمعطيات الحداثة الغربية .
إيقاع لوني تعاكسي
فهو لا يرتكز على الأجواء اللونية المباشرة، ويعتمد على التنويع في الألوان الصريحة ضمن خطة مدروسة في اللوحة الواحدة. واللون الخافت هنا يتناوب مع إيقاعات اللون الساطع، ويزيد من وضوحه ودرجة توضعه في فراغ السطح التصويري. وهكذا يذهب الى اكتشاف مناخات بصرية خاصة، بل ويذهب قبل أي شيء آخر الى كشف أسرار استخدام التقنيات للوصول الى الايقاع اللوني التعاكسي، ولا يقتصر اعتماده هنا على تناوب المساحات الساطعة للنور والمساحات الخافتة أو المعتمة، بل يعتمد في تقنيته على إيجاد المدى التصويري الشاعري، في الوقت الذي يذهب فيه الى التدقيق في كل تفصيل يمكن أن يظهر إلى العين.‏
وعلى الرغم من تنوع الموضوعات التي برزت في مسار تجاربه المتواصلة منذ عام 1997. فهو في النهاية يرتبط بنسيج بصري خاص يشكل مدخلاً لاستشفاف جوهر الرسم الخيالي والرمزي الأكثر ارتباطاً بتداعيات معطيات الأزمنة. إذ يمارس الرسم الدقيق، باحثاً في كل مرة، عن تشابكات الصور الحلمية والغرائبية ، التي يولفها في أحيان كثيرة، في فضائية ورحاب الكون ، وبذلك يفتح مساحات لوحاته على عالم غريب من صنع رؤاه ومخيلته الإبداعية. اللوحة هنا تنقلنا الى عالم غامض أشبه بعوالم تداعيات الأحلام التي نشاهدها في لحظات النوم أو في أحلام اليقظة. وهي مرتبطة ايضاً برموز العيش في المدن الاستهلاكية المعاصرة ، التي نعيش فصولها اليومية.
وعلى هدا لم تكن لوحاته مجرد رؤى خارقة تعبر عن تداعيات معطيات الأزمنة الغابرة فحسب، بل شكلت ابتكارات فنية جديدة متفاعلة مع مؤثرات الواقع الحياتي الراهن المشحون بالعنف والتناقض والغموض وصولاً إلى الضياع والانسحاق والموت في شوارع وساحات المدن المدمرة والمنكوبة والمغمورة بالأحزان الى حدود السواد الكلي والمطلق . 

هكذا يمكننا التماس عوالم الرؤى والأحلام الأسطورية، لقراءة العبر، والوقوف في وجه الخراب والدمار والموت المعلن وسط فوضى الحياة العصرية. وهذا يعني أن الحلم الأسطوري في فنه قد تحول نحو تجليات جديدة للتعبير عن مواقفه المتعاطفة مع معاناة الانسان المعاصر المحاصر بالقلق والتوتر والاضطراب .
تشكيل هندسي
لوحات راينر غرير جديرة بالتحليل والدراسة، لأنها تكشف عن خطوات إبداعية تحرك بقوة هواجسه وتصوراته ومواقفه، نحو الابتكارات الفنية، مع المحافظة على جوهر الفنون القديمة، باعتماده الرسم المنضبط والمتوازن والمحكم الأداء، في معالجة الحالات الحلمية ، وهو يذهب إلى تقديم مقاطع واقعية في فضائية المشهد الخيالي، مركزاً على إضفاء إيقاعية لونية خارجة عن إطار الألوان الطبيعية الموجودة في الواقع.
وإذا نظرنا إلى فسحة السماء والأشجار والبيوت والزخارف بكامل مساحة اللوحة ، نجدها بتشكيلها العام أقرب إلى رموز الصياغة الغرائبية المعبرة عن علاقة اللوحة بتداعيات معطيات الخيال (رؤى تخيلية متداخلة ومتجاورة ) . فهو يرفض اتجاهات الرسم العفوي أو المتحرر في تركيزه على مبدأ الرسم بلمسة لونية واعية وهادئة تعطي أولوية لتقنية الرسم الواقعي والهندسي . على رغم اتجاهه (في المقطع الواحد من اللوحة) لتأكيد مظاهر الرسم الواقعي الدقيق ، إلا أنه يحاول في أسلوبه التفلت من أجواء لوحات الفنانين القدامى ، من خلال جنوحه في أسلوبه نحو الرمز والخيال مازجاً ما بين الحركة الدرامية المعبرة عن تداعيات معطيات الخيال، وإبراز جاذبية إيماءات المقاطع الواقعية الدقيقة . حيث يبعد لوحاته عن أجواء الصياغة اللونية المتحررة الموجودة في أعمال الفنانين المحدثين ، ويلزم نفسه بصياغة تقنية رصينة، لجهة الاهتمام بإبراز التفاصيل الدقيقة .
لذا فهو يرتبط بالثقافة العصرية ضمن منهجية نظامية صارمة بعيدة عن الانفعالات والعواطف العنيفة ، وهذا ما يجعلنا نشعر وكأننا أمام لوحات منفذة بتقنية هادئة. حيث يرتبط بفن عقلاني موزون ومدروس ومنفذ بدقة متناهية بعيدة عن أجواء الصياغة الفنية الحديثة والمتحررة .فالتقنية ليست سوى وسيلة لإخراج اللوحة ، أما الأسلوب فهو الرؤية الجديدة التي تعطي الفنان خصوصية واستقلالية.
هكذا تتوضح لنا أكثر فأكثر اللوحة التشكيلية الحديثة التي توصل إليها راينر، وحاول من خلالها اكتشاف معطيات الحضارات القديمة والحديثة، على هذه الصورة الافتراضية، القائمة على مقدرة أدائية متميزة في الرسم والتشكيل الفني الخاص.‌‏
وفي هذا الإطار يمكن القول إن له طريقته الخاصة في توليف الأشكال وفي وضع الألوان . فهو على الصعيد التلويني يميل في أحيان كثيرة لإبراز إيقاعية لونية خافتة أو رمادية وهذا لا يمنع من اتجاهه في أحيان أخرى لإظهار إيقاعات لونية زاهية على مساحات لونية معتمة أو خافتة وهذا يزيد من إيقاعية الحوار اللوني ويفسح المجال لرؤية اللوحة منفذة بحساسيات لونية مختلفة ومتفاوتة.

آخر الأخبار
بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة تفقد معبر العريضة بعد تعرضه لعدوان إسرائيلي الرئيس الأسد يصدر قانوناً بإحداث جامعة “اللاهوت المسيحي والدراسات الدينية والفلسفية” الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم