الثورة أون لاين – د.سومر منير صالح:
لم تنشأ الدولة في المجتمعات العربية نتيجةً لعقدٍ اجتماعيّ وسياسيّ أنتجته الخبرة المجتمعية والوعي الثقافي، أو ولّدته ظروف الصراع المجتمعيّ على القوة والسلطة والنفوذ، بل كانت الدولة الراهنة في المجتمعات العربية وليدة متغيراتٍ وتوازناتٍ دوليةٍ أفرزتها وقائع الحربين العالميتين الأولى والثانية، بعد انغلاقٍ حضاريٍّ – خلا الأمر تجارب مؤقتة – نتيجة سياسات التتريك والقمع العثمانية، بالعموم ورثت الدولة في المجتمعات العربية عن حقبة الاستعمار مشكلاتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ، ناجمة عن سياسات الاستعمار في تكريس الهويات الفرعية، وعاصرت ولادتها مشكلاتٌ أخرى، في الاقتصاد والسياسة والثقافة، ونجم عن سياساتها المتعثرة مشاكل مركبة، ولكن طوال العقود الماضية من القرن العشرين وحتى الآن، لم تستطع الدولة القطرية العربية بالمجمل أن تحلّها أو تحتويها، لذلك تفاقمت تلك المشكلات مع بداية العقد الأول من الألفية الثالثة وتحوّلت إلى أزماتٍ تعصف بوجودها ووحدتها، وتندرج ضمن هذا الإطار مسائل التنمية والعدالة والتطرف.. ولعلّ أبرز تلك الإشكاليات هيّ الهوية الوطنية والمسائل المرتبطة بها كالاندماج السياسيّ- الاجتماعيّ لتكويناتها الأثنية، فالهوية ليست قالباً جاهزاً يمكن بناؤه أو استرداده في أيّ لحظةً، فهي شعور بالانتماء موسومٌ بالولاء، وممارسةٌ سلوكية تُبنى مع تطور التجربة، وتوافر عنصريّ الإرادة الوطنية، والحاجة الموضوعية الوطنية، وقلنا الحاجة الموضوعية حتى لا تُبنى الهوية في إطارٍ أيديولوجيّ يقوم على مواجهة آخر، تتعرض بعده تلك الهوية لنكساتٍ حالما تضعف الأيديولوجيا أو تتفكك..
اعتمدنا هذا المدخل كمقدمةٍ للحديث عن إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام والتي هيّ جزءٌ من النقاشات الموسّعة حول إشكالية الهوية في المجتمعات العربية، وتكمن تلك الإشكالية في تحديد شكل العلاقة بين العروبة والإسلام، حول أيهما الذي يحمل الآخر، العروبة أم الإسلام؟، في سبيل تشكيّل هويةٍ جامعةٍ للمجتمع، وهو ما شكّل جوهر الخلاف بين التيارين القوميّ والإسلاميّ، ولكنه في الوقت ذاته -برأينا- لم يكن طرحاً سليماً من الطرفين، فالمشكلة لم تكن في ثنائية العلاقة بين العروبة والإسلام بقدر كونها بين (القومية والإسلاموية) كطروحاتٍ أيديولوجيةٍ سياسية، فمن جهة لم تراعِ الطروحات الدينية –على الأقل بعضها أيّ الإسلامويات- البعد التاريخي للعروبة، متخذةً من معاداة القومية والعلمانية والديموقراطية أساساً لمشروعها السياسيّ، طارحةً البديل الإسلاموي المتمثل بالأمة الإسلامية، الشورى، وتكفير العلمانية، فـالحضارة برأي التيار الإسلامي لم تكن عربيةً وإنما كانت إسلاميةً، ولم تكن قوميةً وإنما عقيديةً.
وفي الوقت ذاته ذهبت التيارات القومية بمجملها إلى عدّ المجتمعات العربية على أنهّا أمةٌ واحدةٌ وثقافةٌ ومستقبلٌ مشتركٌ نابعٌ من تاريخٍ واحدٍ ولغةٍ واحدةٍ، واتسع مفهوم القومية العربية إلى حدّ اعتبار بعض التيارات القومية أنّ الانتساب والإيمان به لهذه الأمة يجعلك عضواً فيها، وكأغلب التيارات القومية السياسية في العالم، لم يكن الدين حاضراً في التشكيل الفكريّ القوميّ في بداياته على اعتبار أنّ “العلمانية المتصلبة” كانت أحد مكونات الطرح القومي حينها، وتم تجاهل أهميته وخصوصيته في بداية الحركة القومية العربية وليس تجاهل الدين كعقيدة، لكن لاحقاً ومع عودة انتشار التيارات الدينية خصوصاً (الإسلاموية) في المجتمعات العربية بعد نكسة 1967، تم العمل على إدماج الدين في الثقافة القومية فهو قوةٌ روحيةٌ وجزءٌ من الثقافة المشتركة للمجتمعات العربية لا يمكن تجاهله، وعلى مدى عقود من العمل السياسي ابتدأت قبيل تشكّل الدولة القطرية وحتى راهناً، اتسمت العلاقة بين التيارين القومي والديني الإسلامي على تنوعه بالجدل الفكري، وهو ما يدفعنا إلى تفكيك العلاقة بينهما في ثقافتنا العربية على الشكل التالي: العلاقة بينهما ليست علاقة (تضادّ ثنائيّ) فالقومية أيديولوجيا على الأقل في طرحها، والإسلام دين في جوهره، ولا يحصل التضاد إلّا في حالةٍ واحدةٍ فقط، هو عدّ العروبة كونها أيديولوجية سياسية، وكذا الأمر عدّ الدين أيديولوجية تحمل سمة سياسية (زمنية ودينية) وأنموذجها التطبيقي الإسلاموي.
والعلاقة ليست اندماجية، لأنّه حينها ولأسبابٍ تتعلق بالبنية السياسية العربية وتكوين السلطة فيها، سيحصل تديّن للسياسية (أسلمة للعروبة)، وتسيّس للدين (إسلاموية أو قومنة للدين)، وفي هذا تخريب للثنائية وعدم انسجام داخلي في كلا طرحهما.
والعلاقة ليست تماثلية فالعروبة كقوميةٍ هيّ أيديولوجيا سياسية، أمّا الإسلام فهو دين شامل (عبادة وأخلاق وقيم..)، ومجرد طرح فكرة التماثل سينزع الطرح القومي الفكري إلى “القداسة” في طروحاته، وهو مقتل للفكر لأنه يمنع النقد، وبالتالي التقويم المستمر للفكرة.
وهو ما يدفعنا إلى تبني العلاقة (الحضارية) بينهما والتكاملية بطبيعتها.
فالعلاقة برأينا هي حضارية ثقافية، وهذا يستلزم منا تحديداً دقيقاً لمعنى العروبة هل هو رابطٌ سياسيّ؟، أم رابطٌ ثقافيّ؟، والفرق كبيرٌ في الحالتين، صحيحٌ أنّ الثقافة بالمجمل في المجتمعات العربية لا تُشكّل رهاناً معرفياً، ولم يُتبنَ حتى الآن مفهوم علم الثقافة، لكنها تصلح في الجوهر لإيجاد إجاباتٍ عن التساؤلات الإشكالية..، ولو أنّ مفهوم الثقافة أُعطي حقه في البحث العلميّ والسياسة على حدٍّ سواء لاختصرنا حجم التساؤلات البحثية الكثيرة في بنى هذه الثقافة، وهنا نعتقد أنّ الإشكال يكمن فقط في الشق السياسيّ من السؤال، بمعنى هل العروبة رابطٌ سياسيٌّ (قومي أيديولوجي) أم ثقافيٌّ؟، وهنا لدينا طرحان: الطرح الأول هو ربط القومية (كاديولوجيا سياسية) بالعروبة، باعتبارهما معنىً واحداً، وفي هذا تحجيم للعروبة في قالبٍ سياسيٍّ واختزالٌ وهدرٌ للبعد الحضاري للعروبة كوعاءٍ جمع أكثر من قوميةٍ في منطقة جغرافية مكتظةٍ بالاثنيات، فالعروبة هويةٌ ولغةٌ وتاريخٌ وحضارة لا يمكن اختزالها في أيديولوجية، وعدّها أطروحة متكاملة، وهنا نتفهم الحاجة الموضوعية للتوظيف الأيديولوجيّ للعروبة في قالبٍ سياسيٍّ لمواجهة التحديات الثقافية التي عانت وتعاني منها المنطقة كالتتريك والفرنسة وسواها راهناً من تحدياتٍ ثقافية وتقنية، ولكن لا يجوز التعامل معهما كماهيةٍ واحدة.
والطرح الثاني هو عدّ العروبة رابطٌ ثقافيٌّ، والقومية هيّ المكافئ للثقافة العربية، باعتبار هذه الثقافة تعدديةٌ لا واحدية، بمعنى وجود ثقافةٍ عربيةٍ مشتركةٍ ومتنوعةٍ في آن، وهيّ مستمدة في الأساس من البنى والروابط العائلية والطبقية وأنماط المعيشة والإنتاج، مع اللغة العربية وآدابها والدين الإسلاميّ وقيمه والمسيحيّ وتعاليمه، وبالتالي الثقافة العربية ليست مكوناتٍ ثابتةٍ ساكنةٍ جامدةٍ ومطلقةٍ ومنغلقةٍ تصلح لكلّ زمانٍ ومكانٍ، بل هيّ متطورةٌ باستمرار، مرنةٌ نسبيةٌ منفتحةٌ متحولةٌ نتيجة لتغير الأحوال والأوضاع والأزمات الداخلية والخارجية، وهو ما ينعكس على العروبة التي تصبح أيضاً ديناميةً مرنةً منفتحةً متطورةً لم تكتمل في حقبةٍ زمنيةٍ معينةٍ بل هيّ في تطورٍ دائم، لا يجوز معها قولبتها بإطار أيديولوجي جامد أيّ تحديداً القومية كايديولوجيا سياسية فقط.
لذلك وختاماً، فإن تغليب المفوم الثاني أيّ العروبة (كثقافة وحضارة) مع الإسلام (كدينٍ وقيم)، يخرجنا من مأزقٍ تاريخيّ وهو إشكالية العلاقة بين القوميّ والدينيّ، على اعتبار أنّ الثقافة الإسلامية هيّ مكونٌ أصيلٌ ومهمٌ وثابتٌ في بنية الثقافة العربية، أيّ تبني العروبة بالمعنى الثقافي الحضاري، والإسلام بالمعنى الحضاري القيميّ “هو الحل برأينا”.
والمطلوب حالياً حواراتٌ معمّقة، لا جدلٌ لا متناهٍ، على قاعدة ً”رأييّ صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأيّ غيري خطأ يحتمل الصواب”، والآكادميون بحكم اختصاصهم يفترض انطلاقهم من اعتبار رأيهم خاطئٌ يحتمل الصواب قبل أن يكون صواباً يحتمل الخطأ، وهذا هو الشكّ المنهجيّ المطلوب دائماً لتقويم الفرضية المعرفية، وعلى هذا الأساس تعدّ هذه المقالة رؤيةٌ قابلةٌ للتصويب والنقد برحابة.