في ذروة المد القومي العربي منتصف ستينات القرن الماضي، وجد من يأخذ على العروبيين رفضهم، الذي يبلغ حد العداء، لتسمية العالم العربي، وإصرارهم بالمقابل على استخدام تعبير الوطن العربي بدلاً عنه، ولم يكن الأمر مجرد خيارات بين مرادفات.
كان تعبير الوطن العربي يترجم الحلم الأبدي بالتحرر من حال التشرذم والتخلف وبناء الدولة الموحدة المتطورة، فيما أن استخدام كلمة العالم العربي يجرد مفهوم الانتماء من بعديه التاريخي والثقافي، ويحصر- بشكل من الأشكال- العلاقة بين المكان وأهله بالجغرافيا وحدها، مع أن تلك العلاقة في واقع الحل هي التي دفعت الشعب العربي في بلدانه المختلفة للتضامن مع ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي حتى انتصارها عام 1962، بحكم الانتماء الثقافي التاريخي، وهي التي حملت عمال المرافىء العرب، في كل مكان، على رفض إفراغ حمولات السفن الفرنسية والبريطانية لمشاركة دولها في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وهي- وهذا الأهم والأخطر- ما جعل القضية الفلسطينية هماً عربياً شاملاً منذ زرع الكيان الصهيوني.
كم يبدو الفارق شاسعاً مع حالنا اليوم في ظل الهيمنة المطلقة للإعلام الاستعماري، حيث غاب تعبير الوطن العربي، وحتى العالم العربي، ليحل بدلاً منهما ذلك التوصيف الجغرافي المشبوه: «الشرق الأوسط وشمال إفريقيا»، بما يوحي للمتلقي، ومن ثم يغرس في يقينه، أن هاتين منطقتين لا يجمع بينهما جامع، فيكمل بذلك هدفاً أساسياً للمشروع الاستعماري الغربي وذراعه الصهيوني، ألا وهو فصل مشرق الوطن العربي عن مغربه. وبما أن الكيان الغريب يحتاج، كي ينجح في البقاء ضمن محيط يعاديه ويستعديه، إلى اعتراف بشرعية ما من هذا المحيط، وبما أن هذه الشرعية المرجوة لا تضمنها اتفاقات سلام ولا معاهدات اصلح ولا حتى إقامة العلاقات العلنية والسرية مع دولٍ (من الخليج إلى المحيط).وإنما يضمنها اكتساب قوة عسكرية متفوقة عمل الكيان الصهيوني منذ إنشائه على إنشائها، ولكن حتى هذه لن تضمن له الأمان طالما تملك قوىً في المحيط إمكانية مواجهة التفوق العسكري في وقت ما.
حتى لا يبدو ما سبق حديثاً عاطفياً من المهم الاحتكام للغة الأرقام لتفنيد المقولة الشائعة عن جيش الاحتلال الصهيوني الذي انتصر منفرداً على سبعة جيوش عربية ذلك أن هذا الجيش، الذي صور إنجازه في حرب 1948 على أنه معجزة عسكرية، كان يمتلك حين نشوب الحرب خمساً وستين ألف مقاتل مدرباً ومحترفاً شارك معظمهم في معارك الحرب العالمية الثانية على جبهات عدة، في حين أن الجيوش العربية السبعة التي واجهته – متفرقة – لم يتجاوز تعداد مقاتليها – مجتمعة – العشرين ألف جندي، ناهيك عن ضعف هياكلها وتسليحها. والأمر لم يكن مختلفاً كثيراً في عدوان1956 وقد خاضه جيش الاحتلال الصهيوني برعاية ومشاركة الحليفين القويين الفرنسي والبريطاني، فيما لقي الكيان الصهيوني دعماً استثنائياً من جهات عدة في عدوان 1967. ساهمت في اشاعة أسطورة (الجيش الذي لا يقهر) ومع ذلك لم تستطع عشرون سنة من الحرب النفسية تحقيق الهدف الذي عملت لأجله فانطلق العمل الفدائي الفلسطيني في الستينات، وخاض جيشا سورية ومصر حرباً شجاعة عام 1973 أبدياً فيها كفاءة عالية. ورغم وصول جيش الاحتلال الصهيوني الى بيروت في عدوان عام 1982 فإنه لم يستمتع بهذا (الإنجاز العسكري)، إذ أطلق عدوانه مقاومة وطنية متعددة الأطياف استوعبت خبرات المقاومات السابقة لها وأضافت إليها ابتكاراتها الخاصة فألحقت به هزائم قاسية توجتها بإجباره على الانسحاب من الأرض اللبنانية عام 2000 دون قيد أو شرط، ومن ثم إلحاق هزيمة كبيرة به في حرب تموز 2006.
في ظل ما سبق كان لا بد من اللجوء إلى أساليب أخرى، سبق تجربتها على امتداد تاريخنا الحديث حين عمل الغرب مع الكيان الصهيوني وحلفائه على إضعاف المحيط العربي عبر شرذمته وإلهائه بقضايا تبعده عن القضية الأساسية، بهدف تفتيته إلى مجموعة من الكيانات الطائفية والمذهبية والقومية المتناحرة تبرر من جهة قيام كيان (يهودي) عنصري، وتجعله – من جهة ثانية- القوة المهيمنة على الكيانات الناشئة الضعيفة. أو حسب تعبير الإعلام الاستعماري: « الدولة القائدة للشرق الأوسط الجديد».
وببعض التأمل يمكن اكتشاف أي دور يلعبه الإعلام الاستعماري العالمي (وملحقاته الناطقة بالعربية) في هذا المجال.
إضاءات – سعد القاسم