نعرفهم من خلال كلماتهم، ولا تواصل إنسانياً، أو لقاءً حصل فيما بيننا، لكننا نشعر أننا نعرفهم حق المعرفة ذلك لأننا قرأنا لهم، أو اطلعنا على إنتاجهم الفني، أو المعرفي الفكري، أو العلمي، فتأثرنا بهم بعد أن تركوا بصماتهم في الوجدان.. ولهذا فهم يعيشون في عقولنا، ولو لم نفصح عن ذلك، وربما ما عرف أحد أبداً عن حالنا معهم ما لم نخبر عنهم، أو نظهر حيالهم أي رد فعل إيجابي.. هم المبدعون الذين اختاروا طريق الإبداع ليخرجوا منه إلى الحياة.. وهم مَنْ أثروا الحرف بمؤلفاتهم، أو أغنوا فن الرسم بلوحاتهم، أو لونوا الموسيقا بألحانهم التي تأسرنا.. وكم، وكم من المبدعين في كل المجالات وصلت آثارهم إلينا فصدقناهم، واقتنعنا بأفكارهم، وبتميزهم، وربما اتخذنا من أحدهم مثلاً أعلى لنا نقتدي به، ونسير على خطاه، ونحن نتطلع أن نصبح نسخة أخرى عنه.
لقد عرفناهم جيداً من خلال ما تركوه لنا، أو ما قدموه سواء أكانوا ممن رحلوا، أم ممن نعاصرهم، وإذا ما التقى أحدنا بواحد منهم ظنه ذلك الأخير أنه غريب عنه، وعليه أن يقدّم نفسه إليه، ويعرّف بها بينما المسافات بين الطرفين قد حطمها الأول، واختصرها بكلمات قرأها، أو لحن سمعه، أو لوحة شاهدها، حتى بات يشعر أن ذلك الفنان، أو ذلك الكاتب الذي يلتقيه هو ليس من الأغراب.
لكن.. على الطرف المقابل فبالرغم من أن المبدع ينتظر أن يحصد اعترافاً به من الجمهور مقابل انتاجه، لأن هذا الاعتراف هو بمثابة تتويج لجهوده، إلا أن أكبر ما يستحوذ عليه هي نشوة الفرح التي تغمره حال استثمار ملكته الإبداعية وإظهارها، والتعبير عنها في حيّزها.. ذلك لأنه يجد حقيقة نفسه في تلك المساحة الحرة التي لا يملكها إلا هو، إذ إن لكل مبدع هويته التي تعبّر عنه وحده.. إن ممارسة المرء لما يحبه، ويقتنع به يدفعه لا شك للنجاح في مجاله، هذا النجاح الذي يؤهله للوصول من خلاله إلى غيره.. بل إنه كالطبيب الذي يريد أن يثبت لمريضه أنه قادر على علاجه فإذا به يستنفر طاقاته، ومعلوماته العلمية في عملية التشخيص، والتطبيب، لأنه يعرف جيداً إمكاناته الحقيقية.
وبالمقابل فهناك مَنْ يدعي.. ولكن مَنْ ذا الذي يستطيع أن يقنع الآخرين بإبداعه ما لم تكن لديه تلك الهوية التي تميزه، وما لم يثبت ذلك لنفسه أولاً، ويعترف لها أنه حقاً يقبض على تلك المفاتيح السحرية؟.. فمهما برع المرء في أن يغش غيره، وللغش أساليب كثيرة، إلا أنه في نهاية المطاف لا يستطيع بحال من الأحوال أن يغش نفسه، فهو الأقدر على تقييم قدراته، وملكاته، وهو أكثر مَنْ يعي حقيقة الأمر الذي يدّعيه لنفسه بينما فاقد الشيء لا يعطيه.. والصورة المزيفة لا تصمد طويلاً، ولو أراد لها صاحبها أن تعيش.
إن تلك العلاقة الثنائية والجدلية بآن معاً التي تربط بين طرفين هما صاحب الإبداع ومتلقيه، والتي عززتها وسائل الاتصال المعاصرة السريعة والمؤثرة في الوقت ذاته، إنما هي أبسط مما نتوقع رغم أنها إشكالية، وقائمة باستمرار في الاتجاهين أخذاً وعطاءً.. إذ إما أن تستمر العلاقة عندما يقتنع المتلقي بالمنتج الإبداعي، ويتأثر به سواء أكان هذا عملاً أدبياً، أم موسيقياً، أم سينمائياً مثلاً، أم رسماً فنياً، أو غير ذلك كثير.. أو أنها تنقطع فتسقط في زوايا الإهمال، ويُنسى اسم صاحبها.. ورغم أن الأذواق في كل الأحوال لا تتماثل، والأثر الذي يُترك لا يتطابق عند جميع الناس، إلا أن حداً أدنى من القبول الجماعي يجب أن يتحقق في معيار تقييم الإبداع.
لكن مهمة المبدع التي تأتي في المقام الأول هي في إثارة الحوار باستمرار بينه وبين متلقيه فلا ينقطع بينهما تأكيداً لجودة المنتج الإبداعي، أو تصويباً له.. والجديد الذي يُنتظر منه يجب أن يظل محط متابعة، واهتمام، فالإبداع هو من الابتكار، وإذا ما غاب تحول الأثر إلى العادي الذي لا يعود يستقطب إليه معجبيه.
وهؤلاء الذين يعرفهم جمهورهم، وباتوا هم يعرفونهم أيضاً بفضل ما أصبح متاحاً من قنواتٍ للتواصل عليهم أن يظلوا على عهد العطاء الصادق، والوفاء الدائم.
(إضاءات)- لينا كيلاني