الثورة أون لاين – د. مازن سليم خضور:
“حماية التراث”.. ليست مجرد حالة يفرضها ترف الواقع الاجتماعي واستقراره، هي أكثر من ذلك بكثير، فيها من الأهمية ما يوازي حماية التاريخ والحاضر والمستقبل معاً، لأن اندثار التراث يعني زوال حضارات تعاقبت على أيّ مجتمع من المجتمعات وفي سورية التي تعاني من حرب إرهابية على مكونات المجتمع والهوية السورية كان من الضروري التذكير بالحرب التي يتعرض لها التاريخ والتراث والحضارة السورية خاصة أنه يصادف يوم 18 من نيسان يوم التراث العالمي حسب الاتفاقية التي اعتمدها المؤتمر العام لليونسكو في العام 1972 في العاصمة الفرنسية باريس.
الاتفاقية تصنف التراث البشري إلى نوعين:
ثقافي يشمل الآثار والأعمال المعمارية والمجمعات العمرانية والمواقع الحضرية ذات القيمة الاستثنائية أي الأعمال المعمارية والنحت والتصوير على المباني والعناصر ذات الصفة الأثرية والنقوش والكهوف ومجموعات المعالم التي لها جميعاً قيمة استثنائية من وجهة نظر التاريخ والعلم والفن.
وطبيعي أن يشمل المواقع الطبيعية ذات القيمة العالمية أي المعالم الطبيعية المؤلفة من التشكلات الفيزيائية أو البيولوجية ولها قيمة كذلك التشكلات الجيولوجية أو الفيزيوغرافية والمناطق المحددة بدقة مؤلفة لموطن الأجناس الحيوانية أو النباتية المهددة والمواقع الطبيعية أو المناطق الطبيعية ذات القيمة العالمية.
بعد استشهاد القيادي في الحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني” على يد الولايات المتحدة الأميركية والتوتر الذي حصل والتهديدات المتبادلة، هدد آنذاك الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب باستهداف مجموعة من المراكز الإيرانية ومن بينها مراكز ومواقع إيرانية ثقافية مهمة، في دلالة واضحة لخصوصية الحرب على كامل محور المقاومة و البعد الآخر لها، الهادف لضرب جذور تاريخية وحقائق كان العدو الصهيوني يعمل منذ عشرات السنين على تزويره و تغييبه، بعد هذا التهديد ظهرت بعض الردود والتصاريح التي اعتبرت أن أي استهداف للمواقع التاريخية والثقافية يعتبر “جريمة حرب” رغم أن معظم هذه الأصوات غابت عن استهداف الحضارة والتاريخ السوري من قبل ما يسمى التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية من جهة، والتنظيمات الإرهابية بزعامة تنظيم “داعش” الإرهابي وغيرها من التنظيمات المدرجة على قوائم الإرهاب، عبر استهداف حضارة عمرها آلاف السنوات في سورية والتي تعد من أقدم مراكز الحضارة في العالم القديم، وبفضل تاريخه العريق، يوجد فيه الكثير من المعالم ذات الأهمية التاريخية والثقافية والدينية، والتي أُدرج عدد منها في قائمة منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) “لمواقع التّراث العالمي.
وكنا في سلسلة الحرب الأخرى تناولنا هذا الموضوع في مقال سابق بعنوان “حروب تحت الأرض .. انتقاماً من التاريخ” ونشرت بتاريخ 25/ تشرين 2/2020 أن ما تتعرض له سورية لا يعتبر فقط خسارة إنسانية ومادية فحسب، بل تعرض العالم معها إلى ما سمي نكبة حضارية كبرى تجلت بفقدان العديد من الآثار ومعالم التراث، ويرى بعض الخبراء أن آثاراً تعود لمئات الآلاف من السنين موجودة على الأرض السورية مهددة هي الأخرى بالتدمير أو السرقة، فقد طالت الحرب المستمرة منذ العام 2011 مئات المواقع الأثرية، دمر بعضها وألحقت أضراراً ببعضها الآخر في كارثة ثقافية إنسانية لا تعوض، فسورية تعتبر متحفاً مفتوحاً نظراً لما تحتويه من آثار تعود إلى حضارات مختلفة وأوابد متنوعة، إضافة إلى عشرات الكنائس والمساجد والقصور التاريخية وبالتالي الإنسانية تخسر آلاف السنين من إرثها.
تبادلت قوى العدوان الأدوار في تدمير التاريخ والحضارة السورية فما بدأه تنظيم “داعش” الإرهابي أكمله الاحتلال الأميركي والتركي والإسرائيلي من خلال استهداف المئات من المواقع الأثرية والتراثية حتى أن مدناً بأكملها أصبحت مدمرة وخير مثال مدينة الرقة السورية التي دمرها تحالف الولايات الأميركية المزعوم والتي دمر هذه المدينة بتاريخها وحاضرها وأبنيتها وأوابدها علماً أن اتفاقية التراث العالمي تقول إن التراث الثقافي والطبيعي ثروة لا تقدر بثمن ولا يمكن تعويضها ليس فقط لكل بلد ولكن للبشرية جمعاء وإن اندثار أو زوال أي بند من هذا التراث الثمين يعد إفقاراً لتراث جميع شعوب العالم ويمكن اعتبار بعض أجزاء هذا التراث بسبب صفاتها الفريدة ذات قيمة استثنائية وتستحق أن تحظى بحماية خاصة ضد الأخطار المتزايدة التي تهددها وبالتالي لم نر أي من هذه الخطوات فيما يخص الحرب السورية علماً أنه تم استهداف مدينة تدمر الأثرية والتي تعد درة الشرق وأعظم مملكة عرفها العالم القديم حتى أن المسرح الأثري تم استخدامه بعمليات الإعدام وتصويرها من قبل التنظيمات الإرهابية كذلك الأمر بالنسبة لمدينة حلب وأسواقها القديمة لم تستثن من ذلك الدمار بالإضافة لمئات المواقع الأخرى في كافة المحافظات السورية.
التّراث الأثري لسورية لا يتعرَض فقط للتّدمير والقصف، بل أيضاً للنّهب والسّرقة بسبب الحرب، إذ كشفت تقارير صحفية عن سرقة الآثار التاريخية لسورية ونقلها إلى الخارج وبيعها في الأسواق العالمية وذلك للقضاء على الإرث الثّقافي السوري، وإخفاء هويّته العريقة ومعالمه الفريدة والقديمة، والّتي تعتبر شهادة على التاريخ والقيم المشتركة للبشرية في مدن يصل عمرها إلى آلاف السنين وفيها أقدم عواصم التاريخ “دمشق”.
في النهاية وكما ذكرنا أن التراث هو كنز وطني، تراث لكل السوريين بل هو تراث عالمي.. وبالتالي ذاكرة مشتركة وهوية مشتركة لكل السوريين، وأيضاً جزء من التراث العالمي يجب المحافظة عليه ممن لا يمتلكون التاريخ وممن تربّى على الحقد والقتل والتدمير.. فهل ننتبه لهذا المخطط الذي يستهدف تراثنا وحضارتنا؟.
وهل سنتخذ الخطوات الكفيلة بحفظ آثارنا من التلف والضياع وسرقة هذا التراث الذي يعتبر تاريخ البشرية، وملك الأجيال المقبلة؟.