الملحق الثقافي:أمين غانم:
“لماذا لا تقول ما يُفهم؟..
أبو تمام: “ولماذا لا تفهمونَ ما يقال؟”.
أظنُّه الحوار اﻷرقى، لمن يريدون فهم القصيدة فهماً كليَّاً، دون أيّ جهدٍ أو ذائقةٍ مختلفة لنصٍّ مختلف. أولئك الذين لا يميزون بين الغموض الشعريّ من التعمية واﻷحجية .
الغموض الشعريّ، ذلك السّحر الذي تتوشَّح به القصيدة، والذي يصطدم بالموروثِ التقليديّ والسائد، فالقراءة الجيّدة في امتدادٍ وخلقٌ آخر للقصيدة، وليست مسطرة يسطِّر عليها القارئُ موروثه وماضيه، وما في ذهنه.
فالقارئ التقليديّ، مازال يُطرب للإيقاعِ والقافية، ولو خلت من أيّ صورةٍ شعريَّة أو إيحاء.
بعضهم فسَّر الغموض الشعريّ في القصيدة الحديثة، عدم وضوح الموضوع، وكأنّه يريد موضوعاً محدَّداً، كالغزل والمديح، وربَّما الفروسية. أي ألا يكتب الشَّاعر عن تجربته، بل عن موروثه وتجارب الماضي المتوارثة.
هنا نستطيع أن نحدِّد طبيعة القصيدة، من خلال صياغتها واتجاهها في مستوياتٍ مختلفة
1- قصيدة الحياة اليوميّة المبتذلة، وهمومها بمختلف اتجاهاتها، من مديحٍ وأحلامٍ ضيّقة خاصة، وكلمات لا إيحاء فيها ولا حياة، قصيدة ما في أذهان العامة، وتكديس القائم والمنفصل عن الحياة.
2- قصيدة التعمية والإبهام التَّام، وهي الفصاحة الميِّتة، حيث يختبئ خلفها عجز الشاعر عن تقديم اللغة الحيّة الثورية المتجاوزة، فبالتأكيد ليس كلّ جديد جديداً..
3- القصيدة المتمرِّدة، بمعناها غير المألوف، وصورها المدهشة، ولغتها المتجدِّدة عن الذهنية التقليديّة، بعيداً عن المباشرة والمناسبة .
من هنا، نرى للقارئ أيضاً، مستويات متعددة:
1- قارئٌ تقليديّ، يجذبه اﻹيقاع والوصف والمباشرة، يريد ما يطابق ذهنه وموروثه، بمعنى أنه يريد شاعراً يكتبُ ما يوافق ذائقته، دون أيّ تجاوز وبلغته الواضحة اﻹنشادية.
2- قارئٌ تجذبه اللغة الفصيحة الجامدة، والكلمات المطَّاطة الجوفاء. اللغة الفصيحة ولو كانت بلا أيِّ تجربةٍ، أو أيّ صورةٍ شعريِّة مدهشة، فيعود إلى الماضي الموروث الثابت وزناً وقافية.
3- قارئٌ هاجسه التجديد وغير المألوف، هاجسه تحطيم التقليديّ ببناءِ المتجاوز، وخلق مناخاتٍ جديدة للإدهاش. لا يريد امتلاك المعنى كاملاً، حين يراه متجدداً. قارئٌ ينجذبُ إلى القصيدة في صورها المتحرِّكة، ويشارك الشّاعر في خلقِها، متجاوزاً كلّ دلالاتٍ سابقةٍ جاهزة.
قصيدة التجربة والتجاوز، غالباً ما يكتبها الشاعر كما يتلقّاها من صمته، فيتلقَّاها في مناخٍ خاصٍ لكتابةٍ خاصة، وهذا ما يجعلها تتضمّن إيحاءً ورموزاً، كما تتوشَّح بالغموضِ بعيداً عن اللغز واﻹبهام المغلق. الغموض الذي يفتح أمامها دروباً جديدة، وينبتها أغصاناً تتدفّق بالحياة.
التاريخ: الثلاثاء20-4-2021
رقم العدد :1042