الثورة أون لاين – لميس علي:
(تساعد الهواتف المحمولة في أن تكون متصلاً بأولئك الذين هم على مسافة. الهواتف المحمولة، تسمح لأولئك الذين يتصلون… البقاء على مسافة)..
ويطلق عالم الاجتماع “زيجمونت باومن” على هذا النوع من العلاقات، علاقات الجيب العلوي..
بكبسة زر واحدة نحن قادرون على استعادة التواصل أو إنهائه.
ضمن مجموعة (السوائل) التي وضعها باومن في وصف مجتمع اليوم، ثمة توصيفٌ دقيق لما هو عليه من استهلاك تغلغل بأدق تفاصيل العيش اليومية، اللاهث أبداً خلف الإشباع الفوري واللحظي للرغبات..
فالحياة، بعمومها، سائلة، لأننا نحيا في مجتمع حديث سائل.. والحداثة السائلة هي التي تتميز عن تلك الصلبة التي كانت قائمة على الإنتاج والمرجعية الصلبة/الثابتة للفرد.
أما اليوم، فكل شيء عائمٌ في فضاء من الاستهلاك السريع لكل شيء، حتى العلاقات، التواصل، الصداقة، الحب، كلها تطحن ضمن آلية الإشباع الفوري غير القادر على الانتظار.. الأمر الذي حوّل وجودنا إلى وجود سائل غير قادر على مجاراة حضور حقيقي وصلب.. ذي أبعاد واقعية..
وكذلك التواجد على منصات التواصل ليس بحقيقته وسيلة لقاء أو نافذة وصولاً للآخر.. إنما ليس أكثر من حيلة لزيادة فسحة (البُعد) عنه، ووضع حدود حتى لو كانت افتراضية.
وثمة فارقٌ بين المجتمع والشبكة وضّحه باومن بأننا جميعاً ننتمي للأول، بينما تنتمي الشبكة إلينا.. وكأنها امتداد لوجودنا العائم في سيولة لامحدود..
وما تفرزه سبل التواصل الحديثة ليس ذلك النوع من الثقافة التي تتطلب التعلم والتراكم بل (تبدو كثقافة الانفصال والإيقاف والنسيان).
كخلاصة لكل ما يتسمم بالسيولة: الأزمنة، الحب، الأخلاق، الحداثة، والحياة بعمومها.. وحتى العلاقات والعواطف أصبحت مستعجلة واستهلاكية الطابع.. فلا شيء قائم على أساس صلبٍ ومتين، كان من الطبيعي أن يتسرّب الخوف إلى إنسان اليوم.. الخوف من كونه، هو الذي أصبح مواطناً رقمياً أو يكاد، يحيا اللايقين بسبب تآكل كل النظم الأخلاقية الاجتماعية التي كانت قائمة..
وبدلاً من أن تبدّد الحداثة مخاوف الإنسان من الموت، الوحدة، الشر، الحاجة، وغيرها من المخاوف، ازدادت حدّة الخوف لدى الإنسان بسبب إحساسه أنه هو ذاته أصبح سلعة.
بالإضافة إلى نشوء خوف جديد من كونه مراقباً طوال الوقت نتيجة استخدام التكنولوجيا المتطورة التي أصبحت ملازمة لنا أكثر من أي فرد من أفراد أسرتنا، لطالما كان الاستهلاك يعمل (للحفاظ على النظير العاطفي للعمل والأسرة).
وبسبب العوم في خضم كل السيولة المحيطة، بتنا حتى نحن نسخاً عن أنفسنا، عما كناه بالأمس.. فزادت غربة المرء عن نفسه لأنه في مجتمع استهلاكي “يصبح منتجاً مرغوباً ومطلوباً”.. بمعنى سلعة.. بضاعة قابلة للاستعمال والاستخدام وحتى التجريب.. وربما الاسترجاع.