الملحق الثقافي – دريد عوده *:
ما أطيب رائحة التراب يا ديما، لمّا تهطل أولى زخّات مطر الخريف. كأن الأرض العابقة بأحلامنا تتنفّس أسرارنا الحميميّة.. ذكرياتنا المتعانقة التي لم تجد لها مأوى إلا في قلبِ أمّنا الأرض، وعلى شفتيّ السكينة العميقة، كأنها تريد أن تتفجّر ينابيع وسواقي، لتفرش قصصنا الجميلة مروجَ زنبق ولَيْلَك، لمّا توقظها قطرات المطر الأولى.
توقف فادي قليلاً، تنهّد عميقاً، ثم أكمل:
لا أعرف يا ديما كيف سأترك هذه الأرض الجميلة، التي احتضنت ظلالنا الراكضة في الصيف، والتي أكلت من أقدامنا حتى صارت كلّ رابيةٍ منها، صدى طفولتنا الراكضة.. كأن الدروب شرايين دمنا، والطرقات الوعرة عروق الجسد، وملتقى المسالكِ رفّة جفوننا التي وكأنها تريد أن تمتلك الأفق البعيد.. لقد تماهينا مع هذه الأرض الطيبة، فلم نعد نعرف ما إذا كانت ظلالنا هي قاماتنا، أم هاماتنا هي ظلالنا المحترقة في الشَّمس.
كلُّ مسامٍ في جسد هذه الأرض هو مسامٌ في جسدي؛ روحي تتنفّس من جسدها.
آهٍ.. ديما!.. كيف سأترك هذه الأرض الحنطيّة التي هي جلدي؟!.. كيف سأقبع جلدي، وأرميه في الريح، وأرحل! لا أعرف؟!.
قالت ديما، وهي تحاول أن تُخفي دمعة ترقرقت على خدّها: «إذا كنت تعشق هذه الأرض التي تملَّكت كلّ كيانك، فلماذا تريد أن ترحل»؟!.
ثم تابعت تقول:
«تريد أن تفتّش عن ذاتك!.. ها هي أمامك، في مرايا هذه الأرض الطاهرة النقيّة».
نظر فادي إليها متعجِّباً وقائلاً، وهو يرى دمعتها تفصح عن خلجاتِ روحها:
«ديما! دموعك كقطرات المطر الأولى، توقِظُ عبق ظلَّينا من قلبِ الأرض، لكن الهامة سترحل شاردة في الريح.. حفيفُ الشجر كهمسِ الأجساد، لكن أوراق الخريف تتساقط راحلة».
نظرت ديما إليه، وقد فهمت ماذا يقصد، وقالت له والدموع تتفجر من مآقيها:
«ارحلْ فادي، ارحلْ.. أنا أعرف أن هذه الأرض البسيطة لا تتّسع لأحلامك الكبيرة، رغم أنها تحتضن أحلامنا الصغيرة التي هي أكبر من الكون.
أحلامنا البسيطة هي نحن، هي ذواتنا العميقة، هي الينبوع العذب قبل أن يناديه البحر العَكِر.. هي ذواتنا العارية الحقيقيّة قبل أن يُلبِسنا العالم حِلَل المجد الزائف.. هي رحيق الزهر، وعبق أجنحة الروح، قبل أن تصير عسلاً على موائد الحياة.. هي السنابل الراقصة في الحقول، والمنشدة في حناجر الريح، وفي قلوب العصافير، قبل أن تصير خبزاً على موائد الأحياء.
أحلامنا الصغيرة هي شّمس الصبح على وجنات الندى، قبل أن تصير رذاذاً على موائد شمس الغروب.. هي رقصة الزنبق، قبل أن تصير باقات يابسة في دفاتر الأيام.
اذهبْ فادي، اذهب»..
لم يفهم لماذا كانت تحدّثه هكذا.. أراد أن يعانقها قبل أن يرحل، فارتدّت إلى الخلف وقالت له: «القامة والظل لا يلتقيان…».
غادر فادي مسرعاً، وبعد خطواتٍ قليلة التفتَ إلى الوراءِ وقال لرفيقته:
«أنت لا تفهمين، لن أعود إلى هذه الأرض إلا شهيداً… ديما، لا تدعي طائر السنونو يرحل جريحاً»..
قهقهت ديما بسخريةٍ، قبل أن تتوارى في أزقّة البلدة الضيقة:
«شهيد حانات الليل ومقاهي بيروت…»..
كان فادي قد التحق سرَّاً بخلايا جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، وقد صدرت له الأوامر من القيادة بتركِ بلدته «القرعون» على الفور. لقد كانت لديها معلومات – ولو غير مؤكّدة – أن الاحتلال يشكُّ بانخراطهِ في صفوف المقاومة، وقد بدأ يترصّد حركته عبر عملائه.
«لا يمكننا أن نغادر من المدخل الرئيسي للبلدة».. هذا ما قال له «أنطون» الذي أوكلت إليه قيادة المقاومة، مهمة إخراجه من «القرعون» بأي ثمن. «لقد نصب الاحتلال حواجز منذ ساعات الصباح الأولى، ودورياته تجول في الطرقات والأزقة. حركة غير معتادة، قد يكونون يبحثون عنك».
قال هذا وأضاف:
«علينا أن نكون حذرين جدّاً.. عيون العملاء في كلّ مكان، ويبدو أن رأسك مطلوبٌ لعدّة أهداف…».
نظر فادي باستغرابٍ إلى «أنطون» الذي كان يلتقيه لأوّل مرة، وقال:
«كيف ذلك؟»، فردّ «أنطون»:
«فادي، المقاومة عالقة بين فكَّي كماشة: الاحتلال من جهة، ودعاة الفتنة الطائفيّة من جهة ثانية.. قتلُكَ، وأنت الوجه المميّز هنا في طائفتك، سيؤجّج الفتنة في كلّ البقاع».
انتفض «فادي» والغضب يتطاير من عينيه، ثم قال: «أنا لا أنتمي إلى طوائفٍ بل إلى وطن.. أنا رائحة الأرض؛ لا أحد يفهم معنى هذا.. أنا لست ابن هذه الأرض وحسب؛ أنا روحها وعبق ترابها».
ردّ أنطون: «الاحتلال لا يحتلنا بالدبابات فقط، ثمّة احتلال أخطر وأكبر، هو احتلال النفوس»، وتابع:
«ليست مهمتي الآن عقد ندوة سياسية معك. علينا أن نخرج بسرعة، ويجب ألّا يعرف أحد بذلك، تودِّع أمك وأباك فقط، هذه هي الأوامر».
ما إن قال «أنطون» هذا، حتى انتصب طيف ديما في مخيلة المقاوم، وقد عادت به الذكرى إلى أول لقاء بينهما، ثم كرَّ شريط الذكريات الجميلة.
حدّق «أنطون» في عينيّ فادي القادحتين كعينيّ نسر، فرأى فيهما ذاك البريق اللطيف الذي يكشف عن خلجاتِ روحه، طاغياً على قساوةِ ملامحه:
«لا يمكنها أن تعرف..! ثم لا تورِّطها، فقد ينتقمون منك بقتلها».
أردف أنطون قائلاً لفادي:
«نحن نعرفُ كلّ شيءٍ عنك. المقاومة الحقيقيّة تُعنى أيضاً بأسرارِ قلوب أبطالها».
أجاب فادي بحزنٍ عميق: «ما يؤلمني أنني لم أصارحها بحبي، رغم أنني على يقينٍ أن روحها تعرف أنني أعشقها».
أكمل قائلاً لصديقه الجديد، كاشفاً أسرار القلب:
«أنطون، أنا مثل سائر المقاومين، أحمل كفني على كتفي. ودمي في كفّي. قد أعود شهيداً إلى هذه الأرض، فينام حبي لها في أسرار السكينة العميقة، ويُخرِسه صمتُ الترابِ إلى الأبد».
كرّت دمعة على خد المقاوم وهو يقول ذلك. تركها بكلّ عنفوانٍ دون أن يمسحها، ثم أضاف:
«ما يؤلِمني أكثر، هو أنها تعتقد أنني راحل لألحق ببهرجةِ الحياة وبريقها. ديما دمي يا أنطون، هل تفهم؟».
ردَّ أنطون بحزمٍ: «لأنها دمك، لا يجب أن تعرف».
ثم قال منبِّهًا: «فادي، حماستك للقضية يجعلك لا ترى الخطر المحدِق بك وبها، وثقتك بنفسك تجعلك تتعامى عن المؤامراتِ التي تُحاك ضدّك في الخفاء».
وتابع:
«يا رجل، أُصْحَ! إذا لم يقتلك الاحتلال، سيقتلك احتلال الطائفية للقلوب… الطائفيون محتلّون؛ الطائفية تحتلهم بالبغضاء. ديما دمك، وسيعرفون كيف يسفكونَ دمك».
كان كلام أنطون قاطعاً كالسَّيف:
«اذهبْ ودِّعْ أمك وأباك.. قلْ لهما ما تريد. اخترعْ أيّة حجة لتبريرِ سبب مغادرتك.. فادي، عليك أن تعلم أن غيابك سيكون طويلاً..».
كانت الأمور تدور بسرعة، وبدا «أنطون» على عجلةٍ من أمره، كأنَّ حدسه ينبئهُ بشيءٍ ما:
«اذهبْ الآن. لا تخرجْ بتاتاً من المنزل. نلتقي الساعة السابعة مساءً، ثم نرحل في الليل، فقد أعددتُ خارطة المغادرة».
غادر «أنطون» متأثّراً بشدّة، بكلام «فادي» الذي صار في دقائقٍ معدودة، من أعزِّ أصدقائه.. التفت لبرهة قصيرة إلى الخلف، كان «فادي» لا يزال مسمَّراً في مكانه، كسيرَ الفؤاد، كجبلٍ ضربته العاصفة، ثم قال في قلبه:
«كم تشبهك هذه المقاومة يا فادي!.. قويّة هي كقوّة قلبك العاشق.. نقيّة طاهرة كنقاءِ روحك وطهرِ طويّتك.. مجنَّحة مخضَّبة بالدمِّ، كأجنحتك المتكسّرة».
أمضى فادي النهار بأكمله، وهو غارق في دفءِ محبّة أمه. كانت لا تعرف ماذا تفعل له بعد أن أنبأها برحيله: «أسبوعين فقط…»، هو ما قاله لها مصطنعاً الضحك.
لكنَّ الأم عرفت بغريزة الأمومة، أن شبلها سيرحل إلى غيرِ رجعة، ولم يكن لديها إلا أن تصلّي، علّ صلواتها، كالمحراثِ في الأرض الطيبة، تساعده في شقِّ دربه فتنبت أثلامه وتُثمِر:
«لماذا سميتُه فادي!.. آه، يا رب، سميتُه فادي ليكون الفداء قدره.. فادي الفادي وطنه وأمته، آه كيف أنا الأم فعلت هذا»؟!.. راحت الأم تشهق باكية في الخفاء في المطبخ، وهي تحضّر له طبخة المجدّرة التي يحبها كثيراً، ليأكل من يديها لمرِّةٍ قد تكون الأخيرة.
عندما كانت الأم تذهب إلى المطبخ، بين الفينة والأخرى لتتوارى خلف دموعها، وهي غير مصدّقة كيف أن فصول الحياة ستسلخ عنها ربيع حياتها وزهرة عمرها وزنبقة حديقتها، كان «فادي» يتوارى بدوره في غرفته ليغرق بين أوراقه.
عشراتٌ وعشراتٌ من قصاصات الورق في صندوقه الخشبيّ، تحمل خواطره وتأملاته، منها عن قضيته الكبرى، المقاومة الوطنيّة، وأخرى كتبها حول الله والدين والمجتمع والإنسان وغاية الوجود، لتشكّل كلّها فلسفته في الحياة.
صندوق خشبي عتيق هو خزنة روحه وقلبه وفكره. قال والدمعة في عينه: «عندما أموت، لن يجدوا جسدي لأنني كعصفور الدوري سأختفي بين شجر اللوز المزهر، وأموت بلا أثر.. لن يجدوا جسدي لأنه سيبقى هناك، حيث أسقط، وسيكون جسراً فوق نهر دمي، يعبر عليه المقاومون إلى ضفة النصر الأخير، وإذا أرادوا أن يوارونني التراب، ما عليهم إلا أن يُنزِلوا هذا الصندوق الخشبي في الأرض لأنني كلّي فيه.
آه! كم سيشتاق جسدي إلى رائحة هذه الأرض الطيبة! وعندما يوارون هذا الصندوق الثرى، ستذوب رائحة جسدي في التراب وتعانق رائحة الأرض، وهكذا سأكون حيّاً إلى الأبد.. أعود مع كلِّ ربيعٍ في باقات الزنبق ومساكب الورد والياسمين».
فجأة، تقع بين يديه قصيدة كتبها لـ «ديما»، لم يعطِها لها. كانا يتبادلان الحب الصامت: حب عذري جمع روحيهما وجسديهما كإكليل الجبل المستحي خلف صخرة على رابية.
لم تَبُحْ بحبها له، كانت زهرة روحها تهمس بعطر حبها لنسائمِ أنفاسه، لمّا كان يكلمها عن الحياة والحب، فيصبح كلّ المكان عبق الربيع.
أمّا هو، فلم يفشِ بحبه لها، لأن حب الأرض كان قد خطف كلّ كيانه، فقد كان يقول دوماً في نفسه: «لا أريد أن أُزَفَّ شهيداً للعروس يوم عرسها».
لقد نذر نفسه للمقاومة، لحبِّ الأرض، ولا يريد أن يعذّب حبيبته ابنة هذه الأرض.. «ديما هي أرضي، رائحتها رائحة الأرض، فكيف أُميت الأرض التي من أجلها سأموت»؟!.
أقفل صندوقه، وتوجّه صوب نافذة غرفته التي تطلُّ على حديقة المنزل الخلفية.. من هناك راح يتصفح ثنايا الأرض وصفحات الأثير.
فجأةً طرق والده باب الغرفة ودخل:
«اسمعْ يا فادي»، قال له فوراً وبلا مداورة، «أنا أعرف، أنا أعرف.»
نظر المقاوم بصمت في عينيْ الوالد الستّيني الذي اكتسح الشيب رأسه، وبدت على قسمات وجهه ملامح شموخ الوطن وعزة الأمة، ولم ينطق بكلمة.
تابع الوالد يقول:
«أنا أعرف البذرة الصالحة التي طلعت من بين يديْ، وأعرف هذه السنبلة الذهبية التي طلعت من بين يديْ هذه الأرض المعطاء، وأعرف حبة الحنطة المباركة التي ذهّبتها شمس هذه البلاد العظيمة التي عمرها من عمر الزمن؛ هما توأمان.
أوصيك بلبنان الحبيب، الوطن الأصغر، لكنني أوصيك أيضاً بالوطن الأكبر. لا تنسَ فلسطين النازفة، ولا تنسَ جولان العنفوان، ولا تنسَ كيليكيا والإسكندرون السليب.
أوصيك بالعائلة اللبنانية والمشرقية كلها. كل مقاوم هو أخ لك، وكل شابة هي أختك، وكل والد هو والدك، وكل أم ثكلى هي أمك.
لم يعرف فادي بماذا يجيب. قام من مكانه ليعانق والده. ارتدَّ هذا الأخير بكلِّ عنفوانٍ إلى الوراء، وخرج من الغرفة، لكن الدموع كانت ملء مآقي روحه..
* مفكر لبنانيّ يقيم في نيويورك
التاريخ: الثلاثاء 24- 8- 2020
رقم العدد: 1060