الثورة أون لاين – د. ثائر زين الدين:
حين تقفُ أمام عبد المعين الملوحي بإرثهِ الهائلِ شاعراً ومُترجماً وناقداً ومُحققاً ومُعلّماً، ورجلَ تنويرٍ ونهضةٍ قبل كل ذلك؛ قدَّم إلى المكتبةِ العربية ما يزيد عن مئةِ كتابٍ مطبوعٍ ونحو ثلاثة آلاف مقالة، وعشرات المخطوطاتِ، التي لم ترَ النور بعد يُرتج عليك وتحار من أينَ ستبدأ، وماذا ستقول؛ هل أبدأ من أمرٍ شخصيٍّ عنى لي الكثير مطلع عام 1989، يومَ صدرت مجموعتي الشعريّة الأولى “ورد” في دمشق، وكنتُ أُحضِّر لنيل درجةِ الدكتوراه في الاتحاد السوفييتي؛ فإذا بي أتلقّى رسالةً من الأديب الراحل نعمان حرب يُرفقُ بها مقالةً مطوَّلةً لعبد المعين الملوحي… عنوانها :”شاعرٌ من جبل العرب /نظراتٌ في ديوان: ورد “، أرتجفُ فرحاً ورهبةً؛ هل أنا أمام صاحبِ قصيدة “بهيرة”، صاحبِ ديواني: عروة بن الورد، وديك الجن الحمصي، اللذين حفظتُ كثيراً من قصائدهما، ومترجم “داغستان بلدي”، ما الذي يجعلُ هذا الأديب الكبير يلتفتُ إلى شابٍ يشقُ طريقه إلى عالم الشعر، لكنني أمام الملوحي بالفعل وها هو ذا يفتتحُ مقالته بقولهِ:” ما يزال الشعر في خير…وما يزالُ في العربِ شعراء، تلك هي الفكرة التي انتهيتُ إليها بعد قراءتي ديوان الأخ الشاعر ثائر زين الدين… وأسماه “ورد” وشرَّفني بإهدائه إلي… قرأت الديوان فأعجبني، وقرأته مرَّةً ثانية فزاد إعجابي به، وكنتُ أتوجَّسُ قبل قراءته؛ فما أكثر الدواوين التي أشعرُ عندما ألمسها وأقرأ فقراتٍ منها أنني لا أقرأُ شعراً وإنما أسمع هذياناً محموماً…إلخ”، أعدتُ قراءة المقالةِ مراتٍ ومرات، وكنت في كلِّ مرَّةٍ أزدادُ إصراراً وثقةً بأن أكون جديراً بما جاء فيها، وأن أصبح في قادم الأيام شاعراً مُهماً كما تنبأ لي الملوحي…
لكنني قبل هذا اللقاءِ بعبد المعين الملوحي بكثير، وبعده أيضاً حتى اليوم سأنهلُ من معينِ الرجلِ العذب الزلال، فآسى لأحزانه الحادة التي لازمته شطراً طويلاً من عمره جعلته أحدَ أبرزِ شعراء الرثاء العرب المعاصرين، بل وجَّهته في تحقيق بعض كتبه وإخراجها إلى النور، كما كان الأمر في ذلك العمل الباهر الذي جمعَ فيه قصائد الشعراء العرب القدامى الذين رثوا أنفسهم وهم أمام الموت مثل: هدبة بن الخشرم (…-نحو 60 هـ)، وسحيم عبد بني الحسحاس (…- نحو 40 هـ)، وبشر بن خازم (…- 533 م)، وقيس بن الحداديّة، وجعفر بن علبة (…- 125هـ)، ومالك بن الريب (…- نحو 60 هـ)، وهو الشاعر الذي حفرت قصيدته عميقاً في نفس الملوحي فاستلهمها في قصيدته الشهيرة التي رثا فيها نفسه مخاطباً ابن الريب:
تمنيتَ يا بن الريب لو بتَّ ليلةً
بجنب الغضا تُزجي القلاص النواجيا
وأُمنيتي لو بتُّ في حمصَ ليلةً
فأسبح في العاصي وألقى لداتيا
كلانا تهاوى حلمُه لم تر الغضا
ولا أنا في الميماس أُلقي رحاليا
أمانٍ أضلَّتنا طويلاً وأقلعتْ
وكانت أضاليلُ الرجال الأمانيا
سرابٌ يغرُّ الركبَ حرَّان صادياً
ويغمرُ بالماءِ الغرورِ الصحاريا
لكن قصيدة الملوحي هذه لم تكن مجرَّدَ رثاء، بل ستقدّم خلاصة تجربة الشاعر في الحياة والكفاح والسفر وطلبِ العلمِ ونشر العربيّة التي أحبّها وكان أحد أبرز جنودها وحُماتها:
وطوَّفتُ في الآفاق أقبسُ نورها
فضاقت بي الآفاق كالنحل ساعيا
ويممتُ أرضَ الصين أشدو تراثها
ومن لُغتي أُهدي لها وتراثيا
أصوغُ أحاسيسي وأشدو قصائدي
وأقرأُ في ضوء النجوم كتابيا
وإذا كان بُكاةُ ابن الريب: السيف والرمح الرديني وحصانه الأشقر وامرأةٌ مجهولة تنوح فتثير البواكيا، فإن من يبكي الملوحي طائفة أخرى من الكائنات:
تذكَّرتُ من يبكي عليَّ فلم أجد
سوى قلمي والطِرسِ والحبر باكيا
ومكتبةٍ أودعتُ روحي رفوفها
تكادُ إذا ما متُّ تسعى أماميا
ومنضدةٍ سوداء كاد حديدها
يذوبُ إذا الإلهام أعربَ نائيا
وأفكارُ صدقٍ قد تألَّقنَ ثورةً
أنرنَ لعميان الحياة المعانيا
ومع كل ذلك التألق في نظم الشعر فقد ظلَّ الملوحي مُتواضعاً وما عدَّ نفسه في الشعراء، وقد صرَّح بذلك نثراً وشعراً:
وصاحبٌ قال لي والكأسُ مترعةٌ
وظلَّ يقرأُ كالنشوان أبياتي
هذا هو الشعر هزَّتنا روائعُهُ
فقلتُ، والصدقُ عندي بعض عاداتي:
لا، لستُ أُحسنُ لا شعراً ولا خُطباً
إنّي أُسجّلُ ما تُمليه مأساتي،
ومع كل مآسيه التي تحدَّث عنها لم ييأس، وظلَّ مُقبلاً على الحياة يعملُ وينتجُ ويرفضُ الاستسلام:
وقالوا: سئمتَ العيش؟ قلتُ أُحبّهُ
ولو كنتُ في كوخٍ من القش ثاويا
أصوغُ أحاسيسي وأشدو قصائدي
وأقرأُ في ضوء النجوم كتابيا
وأُرسلُ صوتي في الفلاة مدوّياً
وأضحكُ وحدي في دُجى الليل هاذيا
عبّر الملوحي عن مذهبه في الشعر غيرَ مرّةٍ وفي غير كتاب ولعلَّ الأكثر تعبيراً عن رؤياه في هذا المجال قوله:
“غاية الفن هي الجمال (ولكن هذا العصر الحديث أُصيبَ بالتُخمة الماديّة والنفعيّة الحسيّة وصار الناس لا يؤمنون بشيء إلّا إذا حمل لهم في طياتهِ نفعاً محسوساً، وإلّا كان مُطّرحاً منبوذاً، والفنان الذي كان يقصدُ من فنّهِ إلى إبراز شخصيَّتهِ وإشاعة الطرب في الحياة أصبحَ أمام هذه النزعة الحديثة مُضطرّاً إلى أن يبثَّ خلالَ تعابيره رسالة تهذيبيّة أو إصلاحيّة لتأييد مذهبٍ سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ أو خُلقي أو أن يعمد إلى شرحِ مسألةٍ فلسفيّةٍ…) وعندي أنه لا بأسَ بأن يحمل الفن في طيّاتهِ أسباب الإصلاح فيجمع بذلك بين النفع والتأثير ولكن الخطر الخطير أن تجعل النفعيّة سيّداً عظيماً لا ضيفاً كريماً. نعم نخشى أن ينقُلَ سلطانُ النفعيّة الفنَّ من مجالهِ الوجداني الجميل إلى دائرة الحرفِ والصناعات فيصير الشعر نظماً وتذهب بذلك روعة الحياة” .
رأى الملوحي الأدبَ عامةً وثيقَ الصلة بالحياة الاجتماعية كما كان طبعاً دقيق الصلة بالحياة الفرديّة – على حدِّ تعبيره – بل قد تختلط الحياتان أحياناً في الأدب حتى يعسر علينا أن نميّز بينهما ولاسيما في الأدب الرفيع .
ورأى أن مهمةَ الأدبِ إنما تتجلّى في أنّه يصوّر ما في نفس الإنسان من فكرةٍ وعاطفة وحادثة ثم ينقل ذلك إلى نفوس القراء فيعينهم على فهم الحياة ويوقظ مشاعرهم السامية القويّة ويوجّه نفوسهم بذلك إلى الغايات الإنسانيّة النبيلة، “وهذا ما اعتاد النقّاد أن يسمّوه إيصال التجربة إلى الآخرين. والأديب بذلك هو الرسول الذي يتلقّى بعبقريّتهِ من الحياة جمالها وفلسفتها فيبلِّغها الناس في قصةٍ أو قصيدةٍ أو مقالة” .
وعليهِ فالأدبُ وفق رؤيا الملوحي: “بمعناه العام وسيلة الحياة الإنسانيّة المهذّبة والحياة الاجتماعيّة الراقية يصل بين الأفراد والجماعات من ناحية، ويصل بين الأفراد والجماعات من ناحية ثانية، ويصل بين العصور السابقة والأجيال اللاحقة من ناحيةٍ ثالثة، ويصل بين الجماعات والجماعات من ناحية رابعة، ويسمو بالجنس البشري كلّه إلى مستوى فكري وشعوري وخُلقي جليل” .
والحق أن تلك الرؤيا الجليلة القُدسيّة إلى الأدب قد وجّهت اختيارات الملوحي ليس فقط في الكتابةِ الإبداعية وتحقيق المخطوطات بل في الترجمة أيضاً، ولذلك رأيناه يُترجم كتاب مكسيم غوركي “ذكرياتي الأدبيّة”، وهو فاتحةُ منشوراته، وقد طُبعَ في القاهرة عام 1945.
ولعله العمل الأول الذي يُترجم لغوركي إلى العربيّة، ومن ترجماته أيضاً “تاريخ الأدب الفيتنامي” في أربع مجلّدات، صدر عن وزارة الثقافة السوريّة بدءاً من عام 1980، ونال عليه الملّوحي وسام الصداقة من جمهوريّة فيتنام. وترجم أديبنا بالاشتراك مع يوسف الحلّاق رائعة الشاعر الداغستاني/ السوفييتي رسول حمزاتوف: “داغستان بلدي”، بالإضافة إلى عديدٍ من الأعمال الأخرى مثل: “تاريخ الأدب الصيني المعاصر” عن الفرنسية، لمؤلفته باتريسيا غويللرماز، و”نماذج من الشعر الصيني من أقدم عصوره حتى اليوم”، و”رحلات هاينه في أوروبا “، للشاعر والفيلسوف الألماني هاينرش هاينه وغيرها من الأعمال المهمة.
ولقد امتازت ترجمات الرجل بلغتها الخلابة، لكأنها مكتوبة أساساً باللغة العربيّة، فلا ضعف ولا ركاكة ولا عُجمة في أساليب الصياغةِ، وهذا ما فسَّرته بعضُ إجابات الملوحي في لقاءٍ نُشر في “المساء” اللبنانية بتاريخ 18/ 7/ 1988
حين سألته الصحفيّة وفاء الخشن عن طريقته في الترجمة فقال:
*”ـ الترجمة نافذة نطل منها على آداب العالم وحياته وأفكاره، وبهذا المعنى فالترجمة عمل حضاري راق لا تستغني عنه أمة سواء أكانت كبيرة أم صغيرة. لقد نشرت حتى الآن 30 كتاباً مترجماً من أشهرها ” تاريخ الأدب الفيتنامي” من أول عصوره حتى الآن، ومن آخرها تاريخ الأدب السويدي من أول عصوره حتى الآن وديوان محمد إقبال ”جناح جبريل” وأتوقع أن تظهر لي عن قريب ترجمات أخرى.
وليس للترجمة آثار سلبية إلّا إذا كانت تثير غرائز الجنس أو العنف في الإنسان، وتبقى لها آثارها الإيجابية في غير هذا المجال .
المنهج الذي أتبعه في الترجمة يمر بمرحلتين :
1 ـ المرحلة الأولى: الترجمة الحرفية والتقيّد الكامل بالنص .
2 ـ المرحلة الثانية: صياغة الترجمة صياغة عربية سليمة، عندما يقرأ القارئ ترجمتي يشعر أنّها ليست ترجمة وإنما هي مكتوبة باللغة العربية”.
وحين ظنّت الصحفيّة أن طريقة الملوحي في الترجمة تنطوي على تصرّفٍ فيها وسألته:
* لكن بعض النقّاد يرفضون الترجمة بتصرف؟
أجابها:
“ـ الترجمة التي يتصرّف بها المترجم فيزيد وينقص ويحذف ما يريد ويضيف ما يريد ليست ترجمة على الإطلاق، وإنما هي كتاب من تأليف المترجم استمد عناصره من غيره”.
الرحلةُ مع عبد المعين الملوحي، وفي أدبه شائقة جداً، وممتعة، لكننا محكومون بالوقت، والمتحدّثون في هذه الندوة ليسوا قلائل… ما يدفعني للتوقّف عند هذا الحد داعياً أبناء الأديب الراحل إلى تقديم ما لديهم من مخطوطاتٍ لم تنشر لوالدهم إلى الهيئة العامة السوريّة للكتاب، وسنكون سعداء بنشرها.