ثمة تحولات إقليمية ودولية متسارعة، تشير بمجملها إلى إمكانية تفكك الغرب الاستعماري الذي تقوده الولايات المتحدة، حيث سياساتها الخاطئة والهدامة على مستوى العالم تسرع من عملية التصدع التدريجي في العلاقات بينها وبين شركائها التقليديين من جهة، وبين الحلفاء الأوروبيين أنفسهم من جهة ثانية، وحتى الخلافات والانقسامات المتصاعدة في الداخل الأميركي نفسه ينذر بحرب أهلية على المدى القريب، ومن غير المستبعد أن تتحول أميركا من قوة عظمى ترهب شعوب العالم بغطرستها وبلطجتها، إلى دولة تبحث عن مخارج لائقة تحفظ أمنها واستقرارها على المدى الطويل.
استطلاع الرأي الذي أجراه “مركز السياسة في جامعة فرجينيا” مؤخراً بشأن مستقبل البلاد، يقود إلى استنتاج أكيد بأن الولايات المتحدة يتهددها خطر التفكك، بسبب الانقسام الحاد داخل المجتمع الأميركي، إذ أشار الاستطلاع إلى أن 52 بالمئة من مؤيدي الرئيس السابق دونالد ترامب يدعمون انشقاق “الولايات الحمر” – وهي الولايات المؤيدة للجمهوريين- عن الاتحاد الفيدرالي، وإنشاء دولة منفصلة، وأظهر كذلك أن كلا من “الجمهوريين والديمقراطيين” يعتبر الطرف الآخر خطراً واضحاً على “الديمقراطية” الأميركية، ليخلص الاستطلاع إلى أنّ النتائج تدل على عمق “الحرب الإيديولوجية الدائرة ” في الولايات المتحدة، ومدى كراهية أنصار الحزبين لبعضهما البعض، وهذا الأمر لمسه العالم أجمع خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وعززه أحداث اقتحام “الكابتول”، ما يشير إلى أن العنصرية المستشرية في الداخل الأميركي، ستقود في النهاية لتفكيك “الاتحاد الفيدرالي”، وهذا من شأنه أن يقضي نهائياً على عصر الهيمنة الأميركية الأحادية.
تداعيات سياسة الغطرسة الأميركية، بدأت آثارها الارتدادية تطول العلاقات مع حلفائها الأوروبيين، لاسيما وأنها ترفض بالمطلق أن يشاركها أحد في قيادة وزعامة العالم، فنلاحظ اليوم مدى اهتزاز ثقة الأوروبيين بحليفهم الأميركي الذي يسعى لتحقيق مصالحه الاستعمارية على حساب مصلحة الشعوب الأوروبية، وكيف بدأ يبني تحالفات أمنية تخلق المزيد من الشرخ بين أعضاء “الناتو”، والطعنة الأميركية في الظهر الفرنسي بسكين ” أوكوس” مثال، ولعل تزايد الدعوات الأوروبية لبناء جيش موحد، تعطي مدلولاً واضحاً على مدى جدية الأوروبيين للانعتاق من نير التبعية العمياء لأميركا، وهذا مؤشر على أن كل محاولات الهيمنة التي تقوم بها واشنطن لإبقاء أوروبا تحت قيادتها السياسية والعسكرية لم تعد مجدية كما في السابق.
عندما تصاب أميركا بداء الفشل والانقسام الداخلي، لابد وأن ينسحب هذا الداء على الدول التابعة لسياساتها، وهذا واضح من خلال الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العاصفة بالدول الأوروبية، فضلاً عن تفشي العنصرية داخل مجتمعاتها على غرار العنصرية الأميركية، والانقسام الحاصل في الداخل الأميركي ينسحب أيضاً على الخلافات بين الدول الأوروبية، فكل دولة باتت تبحث عن تأمين مصالحها بمنأى عن مصالح الدول الأخرى، و”بريكست” الذي أخرج بريطانيا من الحظيرة الأوروبية لن يتوقف عند حدوده الراهنة، وربما لن يطول الوقت كثيراً حتى يشهد الاتحاد الأوروبي بداية تفككه، لشدة التباينات الواضحة بين سياسات دوله الأعضاء، ونظرة كل دولة بشكل مختلف عن الأخرى إزاء التعاطي مع الملفات والقضايا الدولية.
أميركا وحلفاؤها الغربيون يواجهون شبح أفول دورهم على الساحة الدولية، ولا شك بأن تعاظم قوة الدول الصاعدة ( روسيا والصين وإيران) والدول الحليفة على امتداد رقعة العالم، له الدور الأبرز في إضعاف الغرب الاستعماري، ودفعه نحو التفكك والتصدع.
نبض الحدث بقلم أمين التحرير ناصر منذر