الاضطرابات الأمنية والسياسية الحاصلة في أكثر من مكان على الساحة الدولية، هي مؤشرات واضحة لمرحلة انتقالية يتهيأ لها العالم قبل تثبيت دعائم نظام التعددية القطبية، وهي تشير أيضاً إلى أن الولايات المتحدة لا تريد الاعتراف بانتهاء عصر هيمنتها الأحادي، وما زالت تراهن على سياسة فوضاها الهدامة لمحاولة الحفاظ على مكانتها القيادية، فتواصل الاعتماد على أدواتها ووكلائها لتنفيذ مخططاتها المعدة للمرحلة القادمة.
السلوك الأميركي المتغطرس ما زال مصدراً رئيسياً لانتشار الفوضى، وتعويم الإرهاب، وإشعال الحروب، وزرع الفتن، وربما تكون الأحداث الأمنية التي شهدها لبنان مؤخراً نموذجاً حيّاً يعكس الرغبة الأميركية في جر هذا البلد إلى أتون حرب أهلية تستهدف إضعاف المقاومة الوطنية اللبنانية باعتبارها الرادع الحقيقي لاعتداءات الكيان الصهيوني، ولجم مخططاته التوسعية، فالسفارة الأميركية في بيروت هي من خططت لكمين الغدر في الطيونة تحت إشراف وكيلة وزارة الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند، ووكلائها المعروفين هم من نفذوا، بهدف وضع قواعد اشتباك جديدة في إطار مواصلة استهداف المقاومة واستنزافها كتعويض عن حالة الفشل الذي منيت به المخططات الأميركية والإسرائيلية لجهة تشويه صورة المقاومة، ومحاولة نزع الشرعية عن سلاحها الموجه نحو الكيان الصهيوني.
التفجيرات الإرهابية التي تتعدد فصولها في أفغانستان، هي وجه آخر للسياسة الأميركية التي تستثمر ورقة “داعش” لجعل هذا البلد بؤرة دائمة للإرهاب تحت قيادة “طالبان”، بما يعطي الولايات المتحدة ذريعة نشر قواعد عسكرية واستخباراتية في آسيا الوسطى بحجة مكافحة الإرهاب، لتساهم تلك القواعد إلى جانب مخرجات تحالف “أوكوس” العسكرية بتهديد الاستقرار والأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وبالتالي وضع الصين وروسيا تحت دائرة التهديد الأميركي والأطلسي، لاسيما وأن “الناتو” يقوم بالتوازي على رفع حدة التوتر مع روسيا من خلال تعزيز تواجده العسكري بالقرب من حدودها، الأمر الذي ينذر بانزلاق العالم نحو نزاع ساخن، يعطي الولايات المتحدة مساحة إضافية للمناورة على أمل أن تحافظ على نهجها أحادي القطب.
في لعبة مناوراتها السياسية، لتأخير مسألة انصياعها للشروط الإيرانية في مفاوضات فيينا، تعمد الولايات المتحدة لتسخير أدواتها الأوروبية لإظهار طهران بأنها هي من ترفض العودة للاتفاق النووي، وهذا بدا واضحاً من خلال تشكيك تلك الأطراف بالنيات الإيرانية بهذا الشأن، متجاهلة استعداد طهران الدائم لاستئناف المفاوضات بشكل جدي، وأن طريق العودة واضح بالنسبة للإدارة الأميركية والمتمثل برفع كامل العقوبات، والحصول على ضمانات ملزمة لعدم انتهاك واشنطن الاتفاق مجدداً، ولكن هذه المناورة لن تسعف واشنطن برفع شروطها التفاوضية في جولة فيينا القادمة، وهي تدرك هذا الأمر جيداً، لتبقى المشكلة بأن الولايات المتحدة ما زالت ترفض التعايش مع حقيقة المتغيرات الحاصلة في موازين القوى العالمية، ويبدو أنها تحتاج لبعض الوقت الإضافي لهضم حقيقة بدء انحسار هيبتها “العظمى”، والجنوح القسري نحو تغيير مسارها الهدام للعلاقات الدولية، وحتى يحين هذا الوقت يبقى العالم مهدداَ بشبح سياساتها المتغطرسة.
نبض الحدث بقلم أمين التحرير ناصر منذر