ازدادت في الآونة الأخيرة ظاهرة اليمين المتطرف في الغرب على وجه العموم وفي أميركا على وجه الخصوص، وللبحث في جذور تلك الظاهرة لابد من العودة للأب الفكري لهذه الظاهرة وهو المفكر الألماني الأصل الأميركي الجنسية ليو شتراوس وتلامذته ولاسيما هارفي مانسفيلد وهو صاحب رؤية مركبة ومتكاملة ذات أبعاد تاريخية وفلسفية وليس مجرد كاتب أو صحافي ويعتبر أستاذ أبرز اثنين من المفكرين التابعين لتيار المحافظين الجدد الفاعل الأقوى في الساحة الأميركية وهما ويليام كريستول وفرانسيس فوكوياما، وتنطلق أفكار هؤلاء كركيزة أساسية أولى من قضية أساسية وهي أهمية الفكر والفلسفة في الحياة السياسية الأميركية لجهة أن وظيفة المعرفة التفريق بين الخطأ والصواب والخير والشر ومحاربته فلو وقف الفكر السياسي موقف الحياد من تلك الظواهر لما تمكن الغرب من مكافحة النازية الفاشية وغيرها من أيديولوجيات يرونها متعصبة، من هنا دعا شتراوس إلى الاهتمام بالفلسفة الكلاسيكية وخاصة اليونانية القديمة وفلاسفة العصور الوسطى لقناعته بتفوق الفكر الكلاسيكي القديم واحتوائه على حلول للقضايا المعاصرة والقناعة الثابتة بقدرة العقل البشري على اكتشاف الحقيقة من خلال التفاعل مع الكتابات التراثية.
الركيزة المحورية الثانية في فلسفتهم هي ما أكد عليه هارفي مانسفيلد بقوله وإيمانه بوجود الفضيلة كقيمة تسعى المجتمعات على اختلاف ثقافاتها لتحقيقها وزرع حبها بين مواطنيها، حيث دعا إلى عودة المجتمع الأميركي إلى الفضيلة التي يرى أنها ترتبط بالأفكار والمؤسسات التقليدية التي تعرضت لهجوم من اليسار الأميركي منذ ستينيات القرن الماضي، وهنا لا يعارض مانسفيلد استخدام الدين كوازع لنشر الفضيلة في المجتمع وأهمية تشكيل تيار واسع حامل لهذه الأفكار، وهنا يستشهد بأفكار الفرنسي دي توكفيل بأن أساس الحياة في أي مجتمع ديمقراطي هو التحزب وتنظيم وتعظيم كل فرد لمصالحه الخاصة إذ يرى مانسفيلد أن المساواة قيمة مثالية يستحيل تحقيقها، وبالمقابل يرى أن التحزب والسعي لتحقيق المصالح المشار إليها هي في خصائص الطبيعة البشرية وأن وظيفة المجتمعات الديمقراطية لا تكمن في تحقيق المساواة وإنما توفير مناخ من الديمقراطية والحرية حيث يتوفر للأفراد مضاعفة طاقاتهم لتحقيق المزيد من المكاسب فالفرد في المجتمع الديمقراطي -حسب زعمه – يشعر بضعفه نظراً لفرديته ما يمثل دافعاً قوياً للعمل لتعظيم مصلحته وقوته ويترتب على فردية الأفراد وطموحهم الشخصي الحد من سلطة الدولة والحفاظ على الديمقراطية لجهة أن مصلحة الأفراد الأقوياء تكمن في قدرتهم على الحد منها وتوفير الحرية لهم لتعظيم مكاسبهم لذا يرى مانسفيلد أن الفردية والسعي لتحقيق المصلحة الخاصة هما (فضيلتان أساسيتان )في المجتمع الديمقراطي وأكثر قدرة على حماية الديمقراطية من عوامل أخرى كالدين واقتصاد السوق ومؤسسات السلطة التقليدية، لكن والسؤال هنا إشكالي كيف يمكن تحقيق المصلحة العامة في مجتمع يسود فيه التنافس والحد من سلطة الدولة؟ وهنا يستعين هارفي مانسفيلد بفلسفة أرسطو التي ترى ضرورة بناء المجتمعات الديمقراطية على قاعدة التنافس بين الطبقات المختلفة والسماح للفئات الأقوى والأصلح أن تصل إلى الحكم وتبقى فيه ما دامت هي الأقوى وهذا يتيح أن يحكم المجتمع من يمتلك عناصر القوة تلك.
على تلك الفرضية يوجه مانسفيلد النقد للأديان والأيديولوجيات التي تنادي بالمساواة بين الأفراد ويرى أن من شأن ذلك إضعاف قدرة الفرد على المنافسة وبناء مجتمع ديمقراطي وأن ذلك أدى إلى إضعاف الديمقراطية في أوروبا زمن العصور الوسطى وسيطرة الكنيسة ما يجعل مانسفيلد معجباً بمكيافيلي الذي فصل بين الدين والفضيلة واعتبره أول من وضع حجر الأساس لعلم السياسة الحديث بتحديده لنوعين من الفضائل فضائل بعيدة المدى يصعب تحقيقها لارتباطها بمبادئ وفلسفات مديدة وفضائل دنيوية صغيرة يسهل تحقيقها وجعل هم السياسي تحقيق الفضائل الصغرى على أن يتحلى بالقوة والدهاء والبطش والقدرة على الخداع ويرى مانسفيلد أن الصورة التي رسمها مكيافيللي هي الأقرب إلى ما نراه راهناً في عالم السياسة وهي الأكثر قدرة على فهم السياسة وأسلوب الحكم؟ وهنا يمتدح الديمقراطية الأمريكية لأنها قائمة على التنافس والفردية مع قدر من الاحترام للدين وعدم الخصومة معه لجهة استخدامه أداة لنشر الفضيلة ويوجه مانسفيلد سهامه لليسار الأميركي لرفضه تعريف الفضيلة كما يراها اليساريون على أنها نسبية فهذا يقود للعبثية ويعيب عليهم أيضا تحالفهم مع الأقليات والمهاجرين والفقراء ونشر ثقافة عدم الرضا عندهم وأن الأفراد يولدون متساوين في الحقوق في حين أن الحقوق لابد أن تكتسب عن طريق الكفاح والعمل الجاد ويعيب على الأكاديميين عدم فهمهم عقلية الجماهير وعقلية المواطن العادي المحب لبلده فالمواطن يؤمن بالبطولة منحاز لها أما الأكاديمي فهو يؤمن بالحقيقة ويفني حياته في البحث عنها ويرحب بنقد ذاته وبلده لذلك هو مواطن (سيئ) في عيون المواطنين العاديين لذا يطلب مانسفيلد من علماء السياسة دعم قيم المواطن وحثهم على المشاركة في شؤون بلدانهم ويعيب على أساتذة الجامعات الانعزال عن المجتمع وإهمال تأثير السياسة على مختلف جوانبه ما يجعلهم منعزلون أو منفصلون عن الواقع الأمر الذي يؤدي إلى المبالغة في المثالية والمزيد من الأفكار الراديكالية.
إن المتابع لنسق السياسة الأميركية سواء كان الحزب الحاكم جمهورياً أم ديمقراطياً يكتشف أن الخط العام للنهج وللثقافة السياسة لا يخرج عن المفاهيم الأساسية التي تمت الإشارة إليها كطروحات وعناوين عامة تستوطن المجتمع السياسي الأميركي وتشكل نواة الفكرة الليبرالية التي يمكن اختصارها بفكرتين مركزيتين هما: المنافسة في السوق وحرية التعبير والتفكير تحت مسمى الحرية وخلاصة ذلك أن السلطة والحكم بالنتيجة هما للأقوى وليس للأكثر.
إضاءات- د. خلف المفتاح