الثورة -هفاف ميهوب:
يسعى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي “أدغار موران” في العديد من مؤلفاته، للتأكيد على أن فكرة الإنسان المفكّر، والإنسان الصانع، والاقتصادي أو المنتج، تبقى ناقصة.. ذلك أن المفكّر قد يكون في الوقت نفسه، أحمق وقادرا على الهذيان، والصانع التقني تمكّن من صنع أساطير لا تُحصى، والاقتصادي أو المنتج، معروف بأنه إنسان الاستهلاك.. أي، النفاق والتبذير، ويرى بأننا إن دمجنا هذه الحالات مع بعضها، لوجدنا الحماقة المنتجة للحقد والازدراء، وبالتالي البربريّة، وهو ما وجده في مجتمعات انتشرت في العالم منذ عشرات آلاف السنين، وأنتجت تنوعاً هائلاً من الثقافات واللغات والموسيقى والطقوس الإلهية، وجميعها لاترتبط بصلةٍ تّذكر، بالمجتمعات سحيقة القِدم، والتي أدى تطورها وتحضّرها، إلى احتدام الصراعات وكثافة الغزوات، وبالتالي عمليات السلب والنهب والتخريب والاغتصاب والاسترقاق والإبادات..
إنه ما أراد منه، توضيح ما تلمّسه من معالم البربريّة.. تلك التي لم يجدها “مجرّد عنصرٍ يرافق الحضارة، وإنما جزء لايتجزّأ منها، فالحضارة تولّد البربريّة، انطلاقاً من الغزو والسيطرة والابادات الوحشية”…
يقدم أمثلة عديدة، أبشعها ما اقترفته أميركا بحقّ الهنود، سكان القارة الأصليين، وليس فقط عبر المذابح التي تنوعت أساليبها بطريقة لايزال التاريخ يذكّر بكارثيّتها، بل وعبر الفيروسات والأوبئة، وأيضاً عملية الاسترقاق التي مارستها ضدها، مثلما ضدّ شعوبٍ أخرى، لازالت تستعبد الكثير منها، وتمارس عليها كلّ مايؤكد إغراقها في همجيّتها وبربريتها.
أما عن البربريّة التي وجدها “موران” حديثة ومستمرّة، ومنذ الانطلاقة العالميّة للحضارة الغربيّة، فهي قيامها بالتصفية التدريجيّة للمجتمعات الصغيرة، وذلك عبر التدمير والتطهير والإبادات الجماعيّة..
ببساطة، هو أراد التأكيد على أن ما تقوم به البربريّة الغربية والأميركية، ولا سيما ضد من يعارضها أو يواجهها، هو أمرٌ يستدعي التنبيه، إلى أن “حدوث الأسوأ أمر ممكن دوماً”..
لا يكتفي “موران” بالتنبيه إلى ذلك، بل ويدعو إلى مقاومة البربرية، وإيقاف الاستعباد، النخاسة، الاستعمار، العنصريّة العرقية، وبالأنسنة والوعي، اللذين يراهما شرطا ضروريا للحدّ من التوحش الأشد خطراً على البشرية..
نتساءل هنا: يا ترى، هل هناك من أنصت لهذا التنبيه، وشعر بضرورة مواجهة، ما دعا “موران” إلى مواجهته في عالمٍ، تراجعت فيه الإنسانية وتقدمت الوحشية؟!! بل هل هناك من يسعى للحدّ من هذا التوحش الأكثر خطراً؟!…
التالي