الثورة – أديب مخزوم:
تنويعات تعبيرية وتجريدية لثلاث تشكيليات وهن ( ريم الحايك، وروان عودة، ولبانة ربيع )، في المركز الوطني للفنون البصرية، وهذه الإطلالة تكرس ماقلناه سابقاً بأن المركز الوطني، يتبنى الاتجاهات التشكيلية الأكثر مغامرة وحداثة، والقادمة من مؤثرات التفاعل مع التيارات العالمية المتطرفة في حداثتها / لما بعد المعاصرة، والمركز من خلال تقديم هذه المغامرات والاختبارات، يساهم في تحريك النشاط الفني والثقافي. فلوحات (ريم الحايك ) تستلهم الأجواء الطفولية، وتقترب طريقتها في رسم العناصر الإنسانية والحيوانية والنباتية من رسوم الأطفال في مرحلتهم المتقدمة. وهذه الأعمال تكتسب أهمية خاصة في معايير علم الجمال الحديث، وذلك لأن العديد من الفنانين المحدثين استلهموا رسوم الأطفال، وأستفادوا من العفوية المطلقة الموجودة في خطوطهم وألوانهم وتشكيلاتهم، وفي مقدمتهم الفنان الأسطوري بابلو بيكاسو، الذي قال عبارته الشهيرة حين زار معرضاً لرسوم الأطفال: ” حين كنت بعمر هؤلاء الأطفال كنت أرسم مثل رفائيل، أما الآن وأنا في الثمانين فأحاول أن أرسم بعفوية وتلقائية وصدق طفل موهوب في مرحلته التعبيرية “.
ومن أجل الوصول إلى معالم فردوسها الطفولي المفقود، تصل إلى أقصى حدود العفوية، حين تقوم بقص العناصر وإلصاقها على سطح اللوحة، والاتجاه الى مزيد من العفوية في رسم الأجواء الطفولية، محافظة على تلقائيتها الفطرية الأولى.
ففي ممارستها الفنية ترفض الانصياع للواقعية المتزمتة، وبذلك تطرح الموضوع كقضية جمالية تتجاوز معطيات الصياغة المستهلكة، بهدف الوصول إلى جوهر التعبير عن الأحاسيس الإنسانية، وهذا يعطيها المزيد من الحرية في تحريك اللون وصياغة الخطوط، بحيث تتحول الأشكال والعناصر والرموز إلى ضربات ولمسات ولطخات لونية وحركات خطية، فيها الكثير من التنويع الوجداني والذاتي، حتى إنها تكسر أطراف اللوحة المألوفة كمربع أو مستطيل وتقدمها أحياناً بشكل دائري.
وفي مطبوعات محفورات (روان عودة) تركيز لإظهار المساحات اللونية التجريدية، بتدرجات رمادية محددة، واللوحة الحفرية التي تقدمها تكتسب أهميتها من مدى قدرتها على إظهار التأثيرات البصرية والخبرات التقنية الغرافيكية، بغض النظر عن الموضوع المطروح.
هكذا تبتعد في لوحاتها عن الصياغة الواقعية التسجيلية، وتظهر الكثير من التعاطف مع تطلعات اللوحة الفنية التجريدية، مع إعطاء أهمية في أكثرية لوحاتها للإيقاع الضوئي والمناخ الشاعري.
وهي تركز أحياناً لإظهار اللمسة اللونية السريعة، فالأداء التشكيلي الذي تحاور به المشاهد والأشكال، يستعيد في كل مرة معطيات خبراتها التقنية المتراكمة، في مجال الحفر والطباعة، ويبرز الملامس في أحيان كثيرة بتدرجات اللون الواحد، علاوة على الاستفادة من سطح اللوحة الخام الذي يصبح داخلاً في بناء اللوحة.
هكذا يظهر عندها الأداء الارتجالي والخطوط المنحنية والمتقطعة والمعبرة عن ضرورة داخلية ماسة، جوهرها التعبيرعن العواطف والمشاعر والانفعالات العميقة.
كل ذلك يحيل الشكل المرسوم إلى إيقاعات تعبيرية، تستعرض الخطوط ومتاهات اللون، وتفرض على اللوحة اتجاهاً تشكيلياً حديثاً ومغايراً لمعطيات الواقع المرئي الموجود في الأبعاد الثلاثة.
وفي لوحات ( لبانة ربيع ) تركيز أيضاً على تدرجات اللون الواحد، وعلى الصياغة الأقرب إلى التجريد، رغم أنها توحي بأشياء من الواقع، فهي تقدم علاقات تشكيلية تتداخل بحرية وعفوية تمكنها من ابتكار نسيج بصري حركي يتخطى الرؤية الواقعية التقليدية، ويفتح أمدية داخل مساحة اللوحة، حيث يتغلب الطابع التعبيري على الناحية التصويرية التسجيلية، وهذا يعني أنها تطلق العنان لعاطفتها ولانفعاليتها اللتين تركتا بصمات واضحة على لوحاتها المنجزة بصياغة عفوية مطلقة وقصوى. وتبرز قيمة التشكيلات هنا في هذه الحساسية المتمادية في الذاتية إلى درجة تجاوز ما هو متعارف عليه من جماليات وعناصر تعبيرية مألوفة في الفنون الحديثة والمعاصرة.
فالحركة السريعة التي تزاولها في وضع الخطوط تلبي بعفوية مطلقة انفعالاً ذاتياً يحقق الحضور الفطري، ويلبي انسياقاً نحو إيقاعات ارتجالية ترتكز على التعبيرية الوجدانية في الكشف الصريح عن الإشارات الذاتية، وهو في ذلك يبقى محافظاً، في كل الحالات، على مستوى معين من الأداء التشكيلي الخاص والحساسية البصرية والروحية.
وهي وإن كانت تذهب أحياناً إلى خطوطية مفرطة في داخليتها، إلا أنها تقدم في النهاية لوحة متمكنة من ابتكار نسيج بصري خاص، يتخطى الرؤية التقليدية، ويزيد من حالات تحسسنا لإيقاعات جمالية حديثة لها علاقة مباشرة بثقافة وفنون القرن الماضي والحالي.

السابق