على امتداد ساعتين كان الحديث يتدفق منساباً بلغة بليغة لمسرحي عريق لا تكرار فيها، ولا تلكؤ، ولا تردد، ولا إطالة.
هكذا كان لقاء أسامة الروماني مع طلبة المعهد المسرحي، أكبرهم عمراً لا يعرف عنه سوى (أبو أحمد)، دوره الذي لا ينسى في (غربة)، وربما لهذا اختارت إدارة المعهد صورته في هذا الدور لتحتل نصف (بوستر) الإعلان عن اللقاء. أما بعد هاتين الساعتين فالحال كان مختلفاً كلياً. فقد كانتا أشبه بمحاضرة أكاديمية مترفة بالمعلومات وخلاصات التجارب عن مرحلة بالغة الأهمية، والحيوية، والإخلاص، في تاريخ المسرح السوري، نحكي عنها بكثير من الحنين، لكننا نجهل – أو نكاد – تفاصيل تصنع باجتماعها تلك الصورة المشرقة الطموحة.
بخبرة الفنان الكبير، عمراً وتجربة ومعرفة وتواضعاً، استعاد – دون استعراض شخصي – مرحلة مسرحية طموحة كان أحد أعلامها، فلم يلامس الحديث الإنجاز الذاتي، إنما حلق بوعي معرفي في عالم تجربة الجماعة، وتراث المسرح العالمي، وتجلياته، وتحولاته، واقتباساته المحلية. مسترجعاً تجارب الأجيال التي سبقته، وتجربة المسرح الجامعي الذي ضم على مشارف الستينات أسماء صارت لامعة في عالم التمثيل: شقيقه الأكبر هاني، الذي كان صديقاً أكثر مما هو أخ، ورياض نحاس، ويوسف حنا، وسليم كلاس. وفي هذا السياق أشار إلى انضمامه للمجموعة، وإلى عودة الدكتور رفيق الصبان من فرنسا وتأسيسه لندوة الفكر والفن التي قدمت عروضاً لنصوص كبار كتَاب المسرح، وقدمت منى واصف لأول مرة على المسرح الكلاسيكي. وكيف كانت هذه العروض في تنافس ثقافي حضاري مع عروض المسرح القومي، كرّس حالته الحضارية وجود نجاة قصاب حسن على رأس مديرية الفنون، والصداقة التي جمعته مع رفيق الصبان.. إلى أن اندمجت الندوة في المسرح القومي بعد سنوات بدأت عام 1963 حين تحولت إلى فرقة التلفزيون الدرامية، إثر طلب وزير الإعلام من الدكتور الصبان دعم التلفزيون بعروض لأجل نخب ثقافية لها الحق أن يكون لها حيزها في ساعات البث.
عشق المسرح الذي دفع بهاني الروماني لأن يتخلى عن كلية الطب في سنته الخامسة، دفع مجموعة عشاق المسرح لتقديم تضحيات كثيرة لأجل عمل ثقافي لائق، يكفي أن نعلم أنهم كانوا يمولون عروضهم المسرحية من رواتب وظائفهم، وأنهم كانوا يتدربون على العرض المسرحي شهرين، من أجل يومي عرض في صالة سينما يستأجرونها بنقودهم لـ(حفلة) الساعة التاسعة ليلاً، بعد نصف ساعة فقط من استلامهم لها. وعليهم خلال هذا الوقت الضيق للغاية اكتشاف المكان وحركتهم على الخشبة وفي كواليسها، وتركيب الديكور.
الصراحة والوضوح بعض ما يمكن أن توصف به إجاباته على أسئلة الطلاب. مستحضراً خلالها عدداً من الوقائع التي تدعم وجهة نظره في عمل الممثل والمخرج، وفي عمل الفريق المسرحي مجتمعاً. كان لنبرة صوته الجدية الهادئة الوقورة أن تعمق الحالة الأكاديمية، وهو لم يتخل عنها، حتى وهو يستشهد بوقائع مسرحية مثقلة بالمفارقات الكوميدية. كيف يمكن للمسرح أن ينهض؟ هذا لا يتم – كما يؤكد – دون دعم الدولة، بعض العروض المسرحية في دول متقدمة تُقدم أمام جمهور لا يصل إلى عشرين مشاهداً.. هؤلاء لا يمكن لبطاقات دخولهم أن تغطي تكاليف العرض المسرحي.. كيف للممثل المسرحي الموصوف بالفقير أن يوفر متطلبات حياته؟ الجواب دون مواربة: لا يستطيع الاكتفاء بعمله في المسرح والممثل لا يقتصر عمله على المسرح..
عن مفاهيم العمل المسرحي ونظرياته وأساليب إعداد وعمل الممثل كان حديثاً أكثر عمقاً ودراية من وجهة نظري – يقول أسامة الروماني – البروفات الكافية هي الأساس.. العرض يجب أن يكون نسخة عن البروفة الأخيرة.
مع أن وقت اللقاء كله وهب للمسرح، فإنه لم يكن كافياً للإحاطة بتجربة الضيف ولا بعمقه المعرفي وخلاصة تجربته، ولو حُصرت في هذا المجال وحده، هذه الحقيقة التي التقطها الدكتور تامر العربيد، عميد المعهد وصاحب المبادرة، فوجه دعوة إلى الضيف الكبير للمشاركة بمشاريع مستقبلية في رحاب المعهد.. ونال وعداً بتلبيتها.
إضاءات -سعد القاسم