في تاريخ الحركة الصهيونية

مع اقتراب ذكرى نكبة فلسطين من المهم إعادة قراءة البعد الديني في الحركة الصهيونية، فهي مسألة مهمة لفهمها دون إهمال لباقي الجوانب، سيما أنه نشأ وتطور ليتحول إلى بعد أساسي فيها فمنزلة الدين في المشروع الصهيوني منذ قيام الكيان حتى عام 1967 ومن ثم آثار النكسة على العرب، وبالنسبة للجمهور أدى إلى قلب الكثير من الأمور وطرق إدارة الصراع وصولا للمرحلة الحالية وما هو بصدد الحدوث في إسرائيل وإمكانية قراءة مستقبل الصراع مع الحركة الصهيونية، مع الإشارة إلى أنه حتى بدايات القرن الثامن عشر كانت اليهودية تعيش ركوداً لم تشهده ديانات أخرى، ووفق الكتاب والمؤرخين اليهود فإن اليهودية كانت تسير وفق رتابة وروتينية تخيم وتحكمها ثلاثة اتجاهات: الهالاخا أي الفقه “يهودية فقهية” أي ماذا على اليهودي أن يفعله أو لا يفعله، هي ديانة ينصب كل إنتاجها على الفقه والأحكام، وإلى جانب تلك الحركة كان هنالك حركة تسمى ماشيحانية ترتكز إلى حالة الأمل بمجيء المسيح الذي سيأتي، وكان ثمة تيار آخر هو التيار الصوفي أو القبلي ، فعملياً تيارات ثلاثة شملت اليهود الموجودين شرقاً وغرباً، وفي تلك الفترة لم تعرف اليهودية حركة النهضة التي شهدتها أوروبا ولاسيما في ألمانيا مثلاً، هذا التاريخ لم يشهد أية هزة حتى قيام ما يمكن تسميته حركة الأنوار اليهودية في القرن الثامن عشر التي نشأت وسط حركة الأنوار الأوروبية وتسمى “الهسكلا” وتعني أن كل إنسان في ذهنة أو داخله شيء من العقلانية، هذه الهسكلا أدخلت إصلاحاً داخل اليهودية الربانية الدينية الساكنة التي أشرنا إليها، وزعيم هذه الحركة هو موشيه مندلسون وكان اليهود يسمونه سقراط اليهودية، وهو لم يكن راديكاليا وإنما اصلاحياً يريد الإبقاء على اليهودية كشريعة وأحكام ولكن أراد إدخال جرعة من التحديث على الديانة اليهودية، بمعنى أن يخرج الإنسان اليهودي من الغيتو ويشارك الحداثة ويخرج من عالم الأحبار المغلق إلى عالم المثقف الحديث ويقبل أن يكون مواطناً في دولة ألمانية، مع ظهور فكرة المواطنة في القرن الثامن عشر وهذه فكرة موسي مندلسون.

فالحل بالنسبة لمندلسون هو أن يصبح اليهود مواطنين داخل دولهم التي يعيشون فيها كاملي الحقوق، وهذا يستدعي من اليهودي الذي يعيش في أوروبا إجراء عملية مطابقة بين يهوديته وبين مقتضيات المواطنة والاندماج في تلك المجتمعات التي يعيشون فيها، وهذا يحتاج إلى ثمن يقوم على حالة البقاء في اليهودية بوصفها ديناً، والعيش في المجتمعات الأوروبية بصفة مواطنين يخضعون لقوانينها، وكانت ذروة هذه الحركة الإصلاحية عندما انتقل مركز الحركة اليهودية الديني والسياسي إلى أمريكا عبر بيان بيتسبورغ1881 وهذا البيان ذو النقاط الثمانية يلخص جوهر هذه الحركة الإصلاحية، وهو الذي يعتبر في النقطتين الخامسة والسادسة أن فلسطين ليست بالضرورة الوطن الذي يجب أن يرجعوا إليه، وأنها فكرة لا معنى لها، وأن هنالك رفضاً للمشروع الصهيوني، ولكن سيقابلها أو على الجانب الأيمن منها نوع من اليهودية الجديدة التي سميت الأرثوذكسية الجديدة، وهو مصطلح ظهر لأول مرة في مقابل المشروع الإصلاحي، وسيقوم به الفيلسوف اليهودي شمشون رفائيل هيرش، والذي سيقوم بعملية تجديد داخل اليهودية مع التمسك أكثر بالحركة الإصلاحية التي توجد في العالم الحداثي أي دخول اليهود في عام الحداثة، وبالتالي سيكون هيرش هذا مناهضاً للحركة الصهيونية.

وعلى اليسار من الحركة الإصلاحية ظهرت الحركة الصهيونية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحركة الصهيونية كانت آنذاك حركة هامشية وحتى في سياق ما يسمى المسألة اليهودية أو ما سماه كارل ماركس المشكلة اليهودية، فكان نقاش في تلك الأوساط ولا سيما يهود أوروبا الشرقية أو الأوساط الاشتراكية، وكانت كل تلك الأوساط تعتبر أن حل المشكلة الدينية يجب أن يتم في أفق اشتراكي كما هو حل مشكلة الطبقة العاملة، فلم يكن المشروع الصهيوني إلا جزءاً بسيطاً ضمن تلك المحاولة المتعلقة بحل ما سمي المشكلة اليهودية فكل هذا الصراع كان على هامش الهامش، ولكن النقطة المهمة في إطار الحركة الصهيونية أنها كانت تبحث عن حل للمشكلة اليهودية ليس في سياق النقاش الأوروبي والمجتمعات الأوروبية كما أراد كل من ماركس ولينين لاحقا أي حل اجتماعي اقتصادي ولكن خارج نطاق أوروبا، ولعل بورخوف المفكر اليهودي له رؤية أخرى حيث يرى أن اليهود كالهرم المقلوب نخبة من دون قاعدة مادية فيجب أن يأخذ وضعه الطبيعي والطبيعي وفق فهمه هو إيجاد أرض لهذا الشعب، ولعل أبرز من عبر عن تلك الفكرة تيودور هيرتزل الذي نقل الحركة الصهيونية بوصفها حركة سياسية من هامش الهامش في الحراك اليهودي إلى قلبه ومركزه ونواته وهي في قلب الصراع العربي الصهيوني.

هرتزل وجد في قضية الضابط اليهودي الفرنسي داريوس فرصة ليؤكد صعوبة اندماج اليهود في أوروبا ولا بد من وطن يعيش فيه اليهود، ولكنه لم يكن يبحث عن حل داخل الديانة اليهودية، وهنالك خطأ شائع في ترجمة كتاب هرتزل بالألمانية الذي عنوانه “يودن شتات” وهو دولة اليهود وليس الدولة اليهودية، فهو يبحث عن دولة لليهود وليس دولة يهودية كما ترجم عند الكثيرين وإنما مكان يعيش فيه اليهود وليس مهماً أن تكون فلسطين بالضبط مثل الأرجنتين ،أوغندا، قبرص فلم يكن لديه تركيز أساسي حول فلسطين حصراً أي أشبه ما كان يطالب به محمد علي جناح في الباكستان من المهاتما غاندي زعيم المؤتمر الهندي بإيجاد دولة يعيش فيها مسلمو الهند وليس بالضرورة دولة إسلامية وهذا ما ظهر لاحقاً في حكم ضياء الحق أي أنه بالنسبة لتيودور هرتزل كانت المسألة إيجاد مكان يعيش فيه اليهود أي وطن دون تمسك خاص في فلسطين علماً أن فكرة البحث عن وطن هي سابقة لتيودور هرتزل فقد ظهر في بداية القرن التاسع عشر في الأوساط الدينية اليهودية داخل حركة الأحبار الربانية أصوات يمكن وصفها بالشاذة من هذه الأصوات سيكون لشخصيتين تأثير خاص في تفكير تيودور هيرتزل وثقافته الدينية وهما يهودا القلعي الذي عاش ومات في أوروبا الشرقية وهو أول من كتب عن ضرورة الاستيطان في فلسطين ومعه بدأت تلك الفكرة وبين أنه لا بد من أن تكون تحت غطاء مالي يوفره رأس المال اليهودي في كتابه -اسمعي يا إسرائيل- ركز على مفهوم التوبة العامة وهي تفترض التحول والانتقال والاستيطان في فلسطين فالفكرة اليهودية التقليدية حتى ذلك التاريخ لم تكن تفضل العودة إلى فلسطين أو أرض إسرائيل ولعل الشخصيتين الشاذتين ضمن الجماعة اليهودية التقليدية هما يهودا القلعي وكاليشير فقد كتب أيضا أفكاراً شبيهة بأفكار يهودا القلعي فعمليا الدعوة (للعودة) إلى فلسطين ظهرت في حالات ضعيفة عبر الحركة المشيحانية وحركة التوبة هذه الأصوات الشاذة كانت تعمل على تهيئة المناخ لفكرة عودة المسيح الذي سيأتي وفقهم آخر الزمان.

لماذا كانت اليهودية التقليدية ترفض فكرة العودة إلى فلسطين والتي ستدخل في خصام ديني مع تيودور هرتزل يمكن أن نقيم ثلاثة أسباب والتي سيحارب هرتزل وجماعته هذه الأفكار فهو قال كلمة شهيرة: اذا اعتقدتم بهذا المشروع فإنه لن يكون حلماً كما تتصورن ويمكنني القول أنني أسست لدولة اليهود أما الأسباب الثلاثة فإن اليهودية التقليدية كانت تعاني من متاعب وصدى الهزائم القديمة ولاسيما هزيمة باركوخبا ابن النجم أو ابن الكواكب عندما ثار اليهود ضد الرومان مرتين في سنة 132 للميلاد ولكن الرومان انهوها بالدم ما شكل صدمة كبيرة في الوعي اليهودي إلى درجة أنهم باتوا يسمونه ابن الكذاب ووصلوا الى قناعة أن بقاء اليهود مرتبط بتمسكهم بالشريعة اليهودية وليس ككيان سياسي ثم لقوا صدمة أخرى في فترة السلطنة العثمانية بفشل حركة شباتاي زفي الذي ادعى المشيحانية وعودة السيد المسيح المخلص ما أدى الى سجنه فهذه تركت في الوعي الجمعي اليهودي نفوراً من كل من يدعو العودة أو يطالب بها الى فلسطين وطبعا في الأعم الأغلب.

الأمر الثاني ربي موشي بن ميمون القرطبي في رسالة الى يهود اليمن تعرض الى ذلك ورفض العودة الجماعية الى فلسطين ولم يحمسهم بالعودة الجماعية ولكن أن يبقى الأمل قائماً عندهم ومن الأسباب وجود نص في التلمود بعنوان المواثيق الثلاث وهو مأخوذ من نصوص يهودية وفيه سؤال هل يجب على الزوج أو الزوجة أن يحمل الآخر إلى السكنى في فلسطين أي هل سكنى فلسطين واجب شرعاً واعتماداً على الوارد في التلمود وفي اليهودية التقليدية وأيضا في الحركة الحسيدية لم تعد مسألة العودة الى فلسطين أساساً عند اليهودية التقليدية فهذه الهزائم التاريخية التقليدية جعلت اليهودية التقليدية ترفض أو لا تتحمس لفكرة العودة الى فلسطين وهذا المشروع الصهيوني ولكن يجب الانتباه إلى الأمر التالي وهو أن هذه الحركة الصهيونية قد وجدت في اليهود التقليدين من يستمع الى فكرة الصهيونية وانخرط وحضر المؤتمر الصهيوني وهي التي كانت قد رفضتها اليهودية النيو ارثوذكسية أو اليهودية الجديدة بدل التقليدية أو الحريدية إذاً مع الحركة الصهيونية بدأنا نلمس تحولاً في مواقف اليهودية التقليدية ولاسيما حركة مزراحي التي تأسست 1902حيث حضر بعض أعضائها المؤتمر الصهيوني الأول وتقبل فكرة قيام دولة لليهود كما حضر ممثلو الصهيونية المسيحية إذاً عمليا الصهيونية الدينية كانت هي الدافع لقيام دولة يهودية ولو لم تكن الصهيونية المسيحية موجودة لما كان لهذا المشروع الذي قاده تيودور هرتزل أن ينجح من فتح أبواب أوروبا لهرتزل لدرجة أن البريطانيين ومنهم القس البريطاني في السفارة النمساوية وليام هشلر عندما وضع هرنزل خريطة فلسطين والقدس والهيكل الثالث أمامه نظر إليه على أنه المسيح الذي ينتظره المسيحيون الصهاينة ولعل نشاط الحركة الصهيونية قد وصل إلى البلدان العربية ومنها تونس حيث حضر المؤتمر الصهيوني الأول اثنان من التوانسة اليهود وحضر أيضا في المؤتمر الصهيوني الخامس والعاشر الربي سوسة وابراهام وزان حيث كانوا على صلة مباشرة مع تيودور هرتزل ولكن ما أعطى المشروع الصهيوني زخماً هو الأحداث التي شهدتها أوروبا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية خاصة حادثة درايفوس في فرنسا والمحرقة النازية حيث أبرزت مسألة وكأن الصهيونية على حق في ظل ما يعيشه اليهود في أوروبا من رفض وعدم قبول واندماج فعمليا مع تلك الأحداث واستغلالها دخل المشروع الصهيوني مرحلة جديدة وهي ضرورة إيجاد حل لما سمي المسألة اليهودية وكان ذلك على حساب العرب والشعب الفلسطيني فالمشكلة أوروبية والحل عربي.

 

 

آخر الأخبار
السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات ٢٧ بحثاً علمياً بانتظار الدعم في صندوق دعم البحث العلمي الجلالي يطلب من وزارة التجارة الداخلية تقديم رؤيتها حول تطوير عمل السورية للتجارة نيكاراغوا تدين العدوان الإسرائيلي على مدينة تدمر السورية جامعة دمشق في النسخة الأولى لتصنيف العلوم المتعدد صباغ يلتقي قاليباف في طهران انخفاض المستوى المعيشي لغالبية الأسر أدى إلى مزيد من الاستقالات التحكيم في فض النزاعات الجمركية وشروط خاصة للنظر في القضايا المعروضة جمعية مكاتب السياحة: القرارات المفاجئة تعوق عمل المؤسسات السياحية الأمم المتحدة تجدد رفضها فرض”إسرائيل” قوانينها وإدارتها على الجولان السوري المحتل انطلقت اليوم في ريف دمشق.. 5 لجان تدرس مراسيم و قوانين التجارة الداخلية وتقدم نتائجها خلال شهر مجلس الشعب يقر ثلاثة مشروعات قوانين تتعلق بالتربية والتعليم والقضاء المقاومة اللبنانية تستهدف تجمعات لقوات العدو في عدة مواقع ومستوطنات “اللغة العربيّة وأثرها في تعزيز الهويّة الوطنيّة الجامعة”.. ندوة في كلية التربية الرابعة بالقنيطرة