هالني يومها ذاك الجمع الكبير .. أعداد هائلة من البشر تهدر على ذاك الطريق الجبلي نازلة باتجاه الطريق الساحلي العام . عند ذاك الطريق كان المشاة يودعون الحجارة و الوعر و الأتربة و يمشون فوق الإسفلت أو الزفت .. أول موقع نلتقي فيه بالحضارة .. بفرح أو بهموم .. لأننا ذاهبون إلى المدينة .. ذلك أنه رغم ما كان يثيره المشوار إلى المدينة فينا من فرح .. كان يضعنا في مواجهة شؤون لنا قد يعيينا ملاحقتها فكيف بحلها !! .
يومها .. كنقطة لاتكاد ترى في خضم هذا البحر البشري هبطنا الكبير .. بل الهائل … نسبياً في تلك الأيام … هبطت مع الهابطين من القرى و أعالي الجبال لنتشرف باستقبال الزائر الذي و إن تراجع شأنه في سلم المقامات بقينا نحفظ له المسافة ليحافظ على مقام الزعيم الذي يتفوق علينا بمسافات .. و تأخرت صحوتنا ..
كان الوعد محسوباً أن يكون ضيفنا هو الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله .. ثم .. تراجعوا فقالوا : لا بل إنه المشير عبد الحكيم عامر .. وكان ذلك كافياً تماماً ليلهبنا حماساً .. فهتفنا كثيراً و غنينا طويلا ً .. لم أكن أرى شيئاً .. بل كنت ملتزم في اطار أكثرية الجمع المتصف بصفة : بشر جاؤوا يتفرجون على بعضهم … ولم يقلل تراجع مرتبة الضيف من حماسنا .. فالضيف الذي تبين فيما بعد أنه المرحوم مصطفى حمدون وزير الإصلاح الزراعي – كما أتذكر – في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة ” سورية ” ..
لم يكن يعنينا من مرتبته شيئاً .. و بفضله عرفنا ساعتها أننا إنما نحن هنا لنحتفل بتوزيع سندات التمليك على بعض الفلاحين المستفيدين من قانون الإصلاح الزراعي .
وإلى اليوم كلما عشت ساعات للهياج العاطفي الحماسي أتذكر مرحلة الخمسينيات والستينيات حيث بدأت هذه الحكاية.. و لم تنته.
عشنا حياتنا و لهتافاتنا مسار واحد من حناجرنا إلى آذاننا و كفى ..
أيامها أيضاً كان الفقر شديداً .. وتعرفنا على الطحين الأميركي مكتوباً علي أكياسه البيضاء بالخط الأزرق العريض ” تقدمة من الشعب الأميركي ” .. و من يومها و نحن العرب نقاتل أميركا .. نقاتلها و نبحث في خزائنها عن الطحين .. !!
أكثر من مرة أقسمت لنا أميركا ممثلة للغرب الاستعماري .. أن نجوع كلما استغنينا عن الطحين الأميركي .. أو كلما ظهرت رغبتنا بذلك .. أو بشكل أدق كلما بدت قدرتنا على ذلك .. !!
و ترانا اليوم أمام المحنة ..
محنتنا ليست في غياب الطحين الأميركي .. بل في أن نجد به مخرجاً ..
As.abboud@gmail.com