تسمحون لي ببعض المبالغة .. هي تأتي ليس بحثاً عن الإثارة، بل تصوير الموقف الذي أحرص على نقله بأمانة يقتضي المبالغة غير المقصودة ..!! نعم هناك مبالغة غبر مقصودة فأنت عندما تنقل الصورة من بيئة إلى أخرى قد تقع في المبالغة..
سأخفف الوقع لأبدأ بمبالغة من الزمن الذي مضى ثم أعود إلى المبالغة الراهنة..
من زمان .. وأنا صغير .. طل إلى زيارتنا رجل من حكماء القرى، ويجب أن تعرفوا من هم حكماء القرى .. إنهم حكماء لا أحد يأخذ بحكمتهم .. إنما يستمع لهم أحياناً .. ثم هم ومن كثرة التكرار وجرأة الكلام ولباقة الحديث .. ومن ضغط الحاجة أيضاً يستشارون أحياناً ..
سأله أبي: شو خبيت للشتوية يا حمدو ..
قال حمدو: مكدس قرامي .. ومكدس حطب .. ومكدس حمو .. وطيّنا البيب والسطح وحضرنا “المعرجلينة” …لا أدري إن كنت أحتاج شرح الكلمات .. سأشرح فقط “المعرجلينة ” والباقي كله له اشتقاقاته اللغوية السليمة .. وهي مدحلة صغيرة تجر باليد فوق السطح الطيني الرطب فترص الطين وتزيد تماسكه ليمنع تسرب مياه الأمطار والدلف ..
قال أبي: هذا للدفا .. والتنور والطبخ .. شو للأكل؟
قال حمدو: طن قمح .. ونصف طن شعير وشوية تين يابس ..مع مكدس تبن للبقرة والدبات .. وبدنا نشتري زنبيل تمر ..
واتفق الرجلان أن ذلك يكفي بعبارة “نعمة الله”
كانت أيام صعبة .. التدفئة على قرامي الحراج والطبخ على الحطب والخبز على التنور .. و.. إلخ ..
منذ أيام وبعدما ودعنا – على أساس – تلك الأيام .. وافتقدنا تقريباً كل ما أوردته وافتقدنا معه المازوت والبنزين والكهرباء .. سألت عيسى “ابن حمدو” وهو رجل كبير في السن متذكراً تلك الحوارية الكسولة بين والدي ووالده:
شو جهزت للشتوية يا عيسى ..؟
قال: القبر .. أخشى أن لا يجدوا معي حق الكفن ..
نحن اليوم هنا .. وتدفعنا الحياة بقوة وسرعة نحو الماضي ..
ولا حطب ولا تنور ولا قمح ولا زنبيل تمر ولا بقرة ولا ..
إلى أين ..
لا تتشاءم يا عيسى ..
As.abboud@gmail.com