تسعون عاماً رحلة من عمر العمل والشقاء والعطاء كانت تلك رحلة أبي في الحياة إلى أن غادرها منذ عقدين من الزمن..
في هذا الصيف القائظ أستذكر الفيء الذي كان أكثر من ندي جلسات السمر والحديث تحت شجرة التوت..
وذكريات الضنك والتعب ..يفيض أبي بحديث التعب ..غذ السير من القرية إلى لبنان ليؤمن ثمن ( طنجرة ) يطول الغياب ولكن الإياب كان شجراً وثمراً وعملاً بالأرض..
حيث يرهقه التعب وتحت أي شجرة يضع رأسه على وسادة من حرير الأرض كما كان يصفها …ليست من حرير التوت بل هي حجر أملس وعليها قطعة من قماش..
وكم كنت أشعر بالخوف عليه وعلى الرجال الذين يتعبون وترهقهم الحياة وتكون الأرض وفيء التوت أو التين الظل الوارف ..
ودائماً المعوذة أن لا تخافوا من شيء إلا من نواياكم إذا كانت..
وديان تحولت مع الرجال إلى نضرة دائمة بساتين تفاح وزيتون ..لم يبق شبر مهما كان صغيراً إلا وكان ينتج ..لم نكن نشعر أن الطرق إلى الوديان عصية ..كانت أليفة سهلة رسمتها وعبدتها قطعان المواشي ( أبقار وأغنام وحيوانات حمولة ..)
كل بيت كان يؤمن اكتفاء ذاتياً من الحبوب والألبان وغيرها ..وكم كان معيباً أن يشتري أحد ما لبناً أو حليباً أو أي شيء موجود عند جيرانه وليس عنده .. بل ربما يمكن القول كان من لا ينتج مادة محددة لديه أكثر ممن ينتجها إذ أن الجميع يرسلون إليه حصة من إنتاجهم ..هي البركة كما يقولون..
وعلى التنور ستجد الصبية وأرغفة الخبز تتهادى بين أياديهم ….
وفي مواسم قطف الذرة الكل يد واحد ..فكيف بموسم الحصاد..
اليوم وقد تركنا الأرض وغادرنا الكبار الكبار آباء وأمهات وإهمال الجهات المعنية بشق الطرق الزراعية ..تحولت الوديان إلى أحراش وجاء من يحطبها..
خسرنا الأرض والحطب …ابن القرية الذي كان يخجل أن يقول اشتريت لبناً أو برغلاً ..أو…اليوم لا يزرع ليس كسلاً أبداً إنما لفقدان عوامل الإنتاج وأولها القدرة على الوصول إلى الأراضي..
مهما كانت المساحات صغيرة لكن مجموعها كبير بالمحصلة ويؤدي إلى اكتفاء ذاتي أو نصفه على الأقل..
اليوم اتوق لأأن تعود وسادة أبي الحريرية من حجر وهي وسادة كل من كان يعمل ..أتوق لخبز أمي من قمح وادينا…أتوق أن أرى أرض قريتنا وكل أرض بور وقد تماوجت خضرة…
أتوق وأتوق …لأن أسمع أن أمراً عالياً قد صدر بشق الطرق الزراعية وبعدها تغريم كل صاحب أرض لا تزرع…..