سلام الفاضل:
بالنسبة إلى علم التاريخ الغربي لا يُعدّ آرنولد توينبي أحد أهم أعلامه في القرن العشرين فحسب، بل إنه صاحب نظرية خاصة في “فلسفة التاريخ” لُخصت بكلمتين هما: التحدي والاستجابة.
وقد ضمّن مُؤلفه المنشور في ثلاثينيات القرن الماضي “دراسة في التاريخ” قراءة تطبيقية للتاريخ البشري على أساس النظرية المذكورة، إذ خلص (بشأن ظهور الحضارات إلى أنها نتيجة استجابة لتحدٍّ صادر إما عن البيئة المادية، وإما عن الوسط البشري، وإما عن كليهما، وذلك في ظل ظروف معينة أوردها في مؤلفه).
ولد آرنولد توينبي خلال العصر الفيكتوري المتأخر عام 1889 الذي سادته روح التفاؤل، جوبه في مطلع رجولته بالحرب العالمية الأولى، فأخذته الدهشة أمام أوجه الشبه بين تجربة المجتمع الذي يعيش فيه وتجارب المجتمع الهيليني التي شكلت ركناً أساسياً في تعليمه، ما أثار في ذهنه السؤالين التاليين: لماذا تموت الحضارات؟ وهل يُقدر للغرب الحديث أن يلقى مصير الحضارة الهيلينية؟!
ونتيجة لذلك امتدت أبحاثه لتشمل انهيار الحضارات الأخرى المعروفة وانحلالها، باعتبارها دليلاً آخر يلقي ضوءاً على سؤاليه، فألّف في ذلك كثيراً من الكتب والدراسات، ومنها كتاب (تاريخ البشرية) الذي كان آخر ما كتبه توينبي قبل وفاته بقليل، والذي يُعدّ تلخيصاً مختصراً جداً لكتابه الكبير السابق (دراسة في التاريخ).
ومؤخراً صدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وضمن سلسلة “آفاق ثقافية” كتاباً حمل عنوان (قراءة في تاريخ البشرية لـ آرنولد توينبي)، تأليف: أحمد يوسف داؤد، يقدم عرضاً دراسياً ومنهجياً لكتاب توينبي المهم هذا، وإضاءة على أبرز ما حمله من رؤى وأفكار، وتخلله من موضوعات ونظريات.
وفي مستهل كتابه يرى داؤد بأن منهج توينبي في دراسة التاريخ إنما يكشفه كتابه الكبير الأول (دراسة في التاريخ) الذي يُعدّ كتابه الثاني (تاريخ البشرية) تكثيفاً موجزاً له، وخدمة لمنهجه في الدراسة فقد قسّم توينبي المجتمعات البشرية إلى واحد وعشرين مجتمعاً لم يبقَ منها إلا خمسة مجتمعات، وهي: مجتمع المسيحية الغربية، مجتمع المسيحية الشرقية، المجتمع الإسلامي، المجتمع الهندوسي، مجتمع البوذية الماهايانية في الشرق الأقصى.. وهو ما يدل على خصوصية نهجه الإيماني في فهم حقائق المجتمعات البشرية.
ويؤكد داؤد في كتابه على موجات النقد القوية التي جوبهت بها أفكار وفلسفة توينبي، حيث وسمت نظريته في التحدي والاستجابة بأنها انحطاطية وتتجاهل صراع القوى المجتمعية الذي هو المحرك الحقيقي للتاريخ. موضحاً أن توينبي يبقى على الرغم من كل ما حاول تصديره أحد أبرز “التلاميذ النجباء” لنظرية المركزية الأوروبية، وأكثرهم ذكاءً في إعادة تصنيعها وتزيينها، ولكن على طريقته!!
وينتقل داؤد تالياً لاستعراض كتاب (تاريخ البشرية) مبيناً أنه يتألف من تصدير استهل به توينبي كتابه، وهو يتمتع بأهمية خاصة لما يحتويه من محاولة لنقض نظرية المركزية الأوروبية، التي لم يفلح الكاتب في سياق كتابه من الفكاك من أسر مقولاتها، بل في الحقيقة عززها بقوة. إضافة إلى اثنين وثمانين فصلاً، خُصصت الخمسة الأولى منها لمعالجة مسألة وجود الكائن البشري ووعيه للظواهر الطبيعية، والمخاطر المترتبة على استمتاع البشرية بهدر الثروات الحيوية المحدودة الموجودة فيها، وتحدر الإنسان، و”الأويكومين” أي الجزء المسكون من العالم، وعرض مجمل ما أنجزه البشر من ابتكارات في مجالات صناعة الأدوات، والزراعة، وتدجين الحيوانات، والتعدين حتى لحظة قيام الحضارة في جنوبي الرافدين ومصر، ليبدأ لاحقاً بعد انتهاء هذه الفصول الخمسة في تقديم سيرة موجزة لمسيرة البشر خلال خمسة الآلاف المنصرمة من السنين في “الصدام مع أمهم الأرض” عبر الصدام فيما بينهم أساساً.
التالي