الملحق الثقافي- د. ساندرا عفش:
كما قال مُعلِّم الجمال الأول الدكتور فؤاد المرعي: (لا بدَّ من الجمال حيًّا كان أم حلمًا).
إن الفنَّ بطبيعته قائم على تجسيد الجمال بالضرورة، أو على أقلّ تقدير، تجسيد الجمال في شكله، وإلا لما كان فنًّا، وإنّ معايشة الجمال بمختلف تجلياته الفنية والطبيعية ضرورة قصوى، ضرورة تضمن السويّة النفسية والذوقية والثقافية، وفي ذلك قال الإمام الغزالي: (من لم يعجبه العود وأوتاره، والربيع وأزهاره، فهو معتلّ المزاج يحتاج إلى علاج) فلا نرى إنسانًا شريرًا إلا كان عاجزًا عن تذوّق الفنّ، كما أنّ العاجز عن تذوّق الجمال عاجز حتمًا عن معايشة الكماليات العقلية المعرفية، وهذا يؤكد أنّ الفنَّ ليس محض فسحة نفسية يلجأ إليها الفارغ من أعماله، إنما هو جزء يومي ينتظم الإنسان من خلاله نفسًا وسلوكًا وجسدًا أيضًا، ففي حين تُعلِّمنا العلوم الطبيعية كيف نتعامل مع المرض والموت، فعلى الضفة الأخرى، يقف الفنُّ معلمًا جليلاً يعلِّمنا كيف نتعامل مع الحياة، وفضلاً عن الأهمية النفسية الذوقيّة لمعايشة الفنّ بات الطب الحديث يتوسل بالفنّ للعلاج، وهذا ما فعله أجدادنا العرب سابقًا في البيمارستانات إذ: (لا بدّ من الفنّ بأيّ شكل كان) كما يقول الدكتور سعد الدين كليب، وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، لكنه يدأب في أصغر يومياته على تذويق محيطه بالفنّ، أو بما يشبه الفنّ؛ من ارتدائه للثياب الأجمل إلى اختيار سجادة الصلاة الأقرب إلى الذوق، وفي هذا كله سلوك ذوقيّ يجعل الفنون – بشقيها الجميلة والتطبيقية – تدخل في تفاصيل حياتنا، وفعليًا هذا ما فعلته جلّ الأديان، فقد توسلت بالفنّ لتوصل للمتلقي رسالتها المجردة على أجمل شكل ممكن، فصارت أعظم قدرة على الإقناع، فمن القرآن الكريم – أعلى نصّ أدبيّ جماليًّا- إلى الأيقونات والمعابد والأوثان والأصنام والتراتيل وتجويد الأصوات.
إنّ المجتمعات تعبّر بفنونها عن موقفها من العالم، من حيث اختيار الفن الذي يطبع شخصية المجتمع (العرب مثلاً قوم كلمة وشعر، قوم وجدان وعاطفة حتى في يومياتهم)، كما أن فنّ مجتمع من المجتمعات يكشف لنا مرحلة تطور هذا المجتمع من المنحى الإنساني الذوقي أولاً، وخير دليل على هبوط مجتمع ما، هو رواج الفنّ الهابط فيه، فالعمل الفني لا يوصل رسالة فردية فحسب، إنما يعكس صورة ثقافية، وعى الفنان ذلك أم لم يعِ، ومن هنا حرصتْ المجتمعات المتقدمة -الغرب الآن والعرب سابقًا- على تنمية الذوق الفني للفرد منذ نعومة أظفاره، حتى ينمو فردًا سويًّا قادرًا على التذوّق والتعبير من جهة، وقادرًا على فهم الآخر باختلافاته وخلافاته بشكل إنساني من جهة ثانية، فأوّل ما يدربنا عليه الفنّ – بوصفه أوسع ميدان للديموقراطية والحرية – هو تقبّل الآخر، فلا نقع بخندق إلغائه والصراع معه.
أما من يتجاهل دور الفنّ في حياة كل فرد أو ينكره، فنتفهم موقفه بالنظر إلى بيئته التي حجبته عن الإنسانية فيه أولاً، وحبسته في قفص تقديس الذات، فندعوه لينمو إنسانيًا بمعايشة الفنّ.
العدد 1115 – 11- 10-2022