الملحق الثقافي:
تمر هذه الأيام ذكرى ولادة ورحيل اداورد سعيد لفترات متقاربة ولد إدوارد سعيد 1935في القدس وهو مُنظر أدبي عربي من أصل فلسطيني-أميركي. يعد أحد أهم المثقفين الفلسطينيين وحتى العرب في القرن العشرين سواء من حيث عمق تأثيره أم من حيث تنوع نشاطاته، بل ثمة من يعتبره واحداً من أهم عشرة مفكرين تأثيراً في القرن العشرين. كان أستاذاً جامعياً للنقد الأدبي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك ومن الشخصيات المؤسسة لدراسات ما بعد الاستعمارية (ما بعد الكولونيالية).ومدافعاً عن حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني، وقد وصفه روبرت فيسك بأنه أكثر صوتٍ فعالٍ في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
حصد الكثير من الجوائز منها
جائزة أميرة أشتوريس للكنونكورد »لغات أخرى» (2002)
جائزة أنسفيلد – وولف «لغات أخرى» (2000)
جائزة نونينو الدولية «لغات أخرى» (1996)
جائزة الكتاب الأمريكي (1996)
زمالة غوغنهايم (1972)
كان إدوارد سعيد من الشخصيات المؤثرة في النقد الحضاري والأدب
قال ادوارد سعيد « أنا فلسطيني ولكني طردت منها منذ الطفولة, وأقمت في مصر دون أن أصبح مصرياً, وأنا عربي, واسمي الأول «إدوارد» رغم أن كنيتي «سعيد» !»
عندها كتب درويش ليصيغ ما قال إدوارد سعيد في قصيدته الرائعة («طباق إلى إدوارد سعيد»):
يقول: أنا من هناك. أنا من هنا
ولستُ هناك, ولستُ هنا.
لِيَ اسمان يلتقيان ويفترقان…
ولي لُغَتان, نسيتُ بأيِّهما
كنتَ أحلَمُ,
لي لُغةٌ انكليزيّةٌ للكتابةِ
طيِّعةُ المفردات,
ولي لُغَةٌ من حوار السماء
مع القدس, فضيَّةُ النَبْرِ
لكنها لا تُطيع مُخَيّلتي
والهويَّةُ؟ قُلْتُ فقال: دفاعٌ عن الذات…
إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها, لا
وراثة ماضٍ.
أنا المتعدِّدَ… في
داخلي خارجي المتجدِّدُ. لكنني
أنتمي لسؤال الضحية. لو لم أكن
من هناك لدرَّبْتُ قلبي على أن
يُرَبي هناك غزال الكِنَايةِ…
فاحمل بلادك أنّى ذهبتَ وكُنْ
نرجسيّاً إذا لزم الأمرُ… خارج المكان
وعن كتاب خارج المكان كتبت وكالة وفا:
منذ عدة سنوات، تلقيت تشخيصاً طبياً بدا مبرماً، فشعرت بأهمية أن أخلف سيرة ذاتية عن حياتي في العالم العربي، حيث ولدت وأمضيت سنواتي التكوينية، كما في الولايات المتحدة، حيث ارتدت المدرسة والكلية والجامعة. العديد من الأمكنة والأشخاص التي استذكرها هنا لم تعد موجودة، على الرغم من أني أندهش باستمرار لاكتشافي إلى أي مدى أستنبطها، وغالباً بأدق تفاصيلها بل بتشخيصاتها المروعة.
كانت حياة غير مستقرة، تلك التي عاشها إدوارد سعيد الطفل، واليافع المراهق والشاب.. حياة قلقة في علاقتها بالمكان.. موزعة، تكاد تكون ظل المنفى.. السفر دائماً.. الانتقال من مكان إلى آخر، وذلك الرحيل القسري بعيداً عن مسقط الرأس.. بعيداً عن الجذر.. أصدقاء جدد في كل مرة، وجيران جدد. ومن ثم قيم جديدة، ومناخات اجتماعية وثقافية مغايرة، فألقى كل ذلك في مسارب نفسه دفقات هائلة من ذكريات، أحداث وأشخاص وأماكن وأحلام مجنحة.
«إلى جانب اللغة كانت الجغرافية في مركز ذكرياتي عن تلك السنوات الأولى، خصوصاً جغرافية الارتحال، من مغادرة ووصول ووداع ومنفى وشوق وحنين إلى الوطن وانتماء، ناهيك عن السفر ذاته. فكل واحد من الأمكنة التي عشت فيها ـ القدس والقاهرة ولبنان والولايات المتحدة ـ يملك شبكة كثيفة ومركبة من العناصر الجاذبة، شكلت جزءاً عضوياً من عملية نموي واكتسابي هويتي وتكوين وعيي لنفسي وللآخرين
وهو يسمي كتاب مذكراته «خارج المكان» يناور إدوارد سعيد في أفق البلاغة والفلسفة والسياسة والتاريخ في آن معاً، فهو لا يغادر المكان على مستوى الواقعة، جغرافياً، إلا من أجل أن يعود إليه رمزياً ليحتويه ويعلن انتماءه إليه، وعدم تخليه عنه، والإمساك به حتى الرمق الأخير.
ها هنا يمتزج الوعي بجدل التاريخ وأحابيله بالحنين الإنساني إلى الغرف والطرقات القديمة والأصدقاء الذين تبعثروا في الجهاد، بحلم العودة أبداً إلى الينابيع، وبالمسألة الوجودية الكبرى.. مسألة الموت. فيكون الحديث، في هذا المقام، عن مدارات تتداخل وتنفصم لتتداخل بكيفية جديدة هذه المرة. ومعها تتبلور الرؤية وتنضج فتستنجد باللغة ـ بأناقتها وهيبتها ومكرها وألاعيبها ـ من أجل أن تخرج نصاً إلى النور.. نص المذكرات وقد تسلل عبر كثافة الذاكرة، والتجارب، والخطوط الدفاعية المستميتة للاوعي، ومقاومة النسيان. ومن ثم خلال الحضور المتطلب، الفريد للشخصية.
يعي إدوارد سعيد وضعية المنفي، خارج مكانه الاعتيادي، معالجاً إياها في فصل مثير من كتابه «صور المثقف»، وهو بعنوان «المنفى الفكري: مغتربون وهامشيون» عندما يتحدد المنفى مفهوماً بالإبعاد، وليس بالابتعاد بمحض الاختيار.. بالاقتلاع من الجذور والخروج إلى المتاه. فالمنفى وضع نفسي واجتماعي وفكري خاص.. حساسية وموقع وموقف. وكلمات من قبيل (الكآبة والقلق والخوف والغربة وانعدام الأمان، والسخرية) تكون مألوفة في الحديث عن المنفي. ويكون الأمر أشد توتراً وإشكالية حين نتناول موضوع المثقف منفياً. وقد سكن إدوارد سعيد هاجس دائم، أنه في غير مكانه.. ذلك الشعور العميق والباهظ للمنفي/ المثقف بخاصة. والذي سيبحث عن تعويض فذ وفعال من خلال الإبداع.
«تصبح الكتابة لمن لم يعد له وطن مكاناً للعيش».. هذا ما كان يقوله ثيودور ادورنو الذي يعده سعيد الضمير الفكري المهيمن لمنتصف القرن العشرين، وقد أمضى سنوات في أميركا وسمته بعلامات المنفى إلى الأبد.
«إن لب تمثيل ادورنو للمثقف كمنفي دائم، يتفادى مجابهة القديم والجديد كليهما ببراعة متكافئة، هو أسلوب في الكتابة متكلف وممحص إلى درجة الإفراط. إنه في المقام الأول مجزأ، متقلب، متقطع، لا حبكة فيه ولا ينتهج تسلسلاً محدداً سلفاً. وهو يمثل وعي المثقف وكأنه غير قادر على التحرر من القلق أينما كان، متيقظاً باستمرار احتراساً من مغريات النجاح، مما يعني، بالنسبة إلى ادورنو، المشاكس في نزعته، القيام بمحاولة عن وعي وإدراك بهدف ألا يفهم بسهولة وعلى الفور.
وفي حالة إدوارد سعيد، نجده منذ الفصل الأول لكتابه يلخص لنا ملابسات ذلك الوضع الوجودي المقلق لحياته: «وقع خطأ في الطريقة التي تم بها اختراعي وتركيبي في عالم والدي وشقيقاتي الأربع. فخلال القسط الأوفر من حياتي المبكرة، لم أستطع أن أتبين ما إذا كان ذلك ناجماً عن خطأي المستمر في تمثيل دوري أو عن عطب كبير في كياني ذاته. وقد تصرفت أحياناً تجاه الأمر بمعاندة وفخر. وأحياناً أخرى وجدت نفسي كائناً يكاد أن يكون عديم الشخصية وخجولاً ومتردداً وفاقداً للإرادة غير أن الغالب كان شعوري الدائم أني في غير مكاني».5)
الوعي ومن ثم تحول
في الرؤية إلى الذات والعالم؟
«أرجوك لا تتخذ هذا القرار!».
هكذا خاطب باسترناك، الرئيس السوفيتي «خوروشوف» عندما راحت الصحافة الشيوعية تطالب بنفيه بعده عدواً للدولة السوفيتية «السابقة» بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب. وتم إجباره على مغادرة روسيا فلم يطق الابتعاد فانتحر في البرازيل، وخرج ريمارك خفية من ألمانيا النازية لينجو بجلده. وغادر إدوارد سعيد القدس في ظروف أشد تعقيداً ليجد نفسه أخيراً في أميركا، وهناك فرض نفسه مثقفاً ومفكراً من طراز ممتاز. حورب من قبل اللوبي الصهيوني، وجرى الاحتفاظ به، أيضاً، جزءاً من الديكور الديمقراطي الأميركي.. تكيف، واستغل وضعه بحنكة وذكاء فصار هاجساً يقض مضاجع الطارحين لوجهة النظر الصهيونية هناك.
في كتابه «الاستشراف: المعرفة.. السلطة.. الإنشاء» قام بتفكيك وتقويض طروحات المستشرقين فأثار لغطاً وردود فعل من قبل أولئك الذين يتحصنون في مواقعهم الأكاديمية الراسخة، وهم يظنون أنهم بمنجى عن أي نقد جاد وفاعل يمكن أن يزعزع مواقعهم تلك. وفي كتابه «تغطية الإسلام» فضح الآليات التي تتحكم بصناعة صورة الإسلام في وسائل الإعلام الأميركية، ونجح كذلك في تقديم وجهة نظر فلسطينية، موضوعية، مقنعة في الراديو والتلفاز والصحافة.
يظهر إشكالية حضور إدوارد سعيد في الوسط الأكاديمي الثقافي الأميركي في كونه عربياً ـ فلسطينياً ـ مسيحياً، حاصلاً على الجنسية الأمريكية، ومثقفاً ثقافة عصرية عميقة، متمثلاً أفكار ومناهج عتاة رجال الفكر والفلسفة الغربيين، ومن ثم عارضاً لوجهة نظر في قضايا العالم ـ وبخاصة القضية الفلسطينية ـ لابد أن تكون مسموعة، وتؤخذ بنظر الاعتبار والجدية.
العدد 1115 – 11- 10-2022