الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
ثمّة أسئلة يمكن أن تُطرح في سياق فهم وتحليل العلاقة الجدليّة القائمة بين الإبداع والجنون…بين الجنون والعبقرية ؟
يختلف المبدعون عن غيرهم من الناس من حيث الحالة النفسية والعقلية والسلوك والطقوس،فنرى الكثير منهم يتصرف بعيداً عن المألوف بحيث نجد ما يقدمونه من إبداع لا يمكن للناس العاديين القيام به،لذلك يعيش الكثير منهم حالات العزلة واليأس والاضطراب النفسي وربما ينتهي بهم المطاف إلى الجنون أو الانتحار …والأمثلة على ذلك:
ما قام به الفنان الانطباعي فان كوخ (الذي قطع أذنه في قرار جريء ومضطرب إثر شجار مع صديقه الفرنسي غوغان الذي يخالفه عقيدته الفنية ويعتمد الخيال أساساً لإبداعه سيرسم خيالاً وهو الذي حاول أن ينتصر لجغرافيا فرشاته عبر التخلي عن قطعة من رأسه) والموسيقار العالمي بيتهوفن والأديب أرنست همنغواي صاحب رواية (الشيخ والبحر) والفيلسوف نيتشه ومن العرب نجيب محفوض وصلاح عبد الصبور و… و….
ولو توقفنا عند مقولات عدّة تؤكد أن الإبداع هو حالة متقدمة من حالات التمرد التي يحياها المبدع سواء أكان عالماً أم فناناً أم فيلسوفاً يرفض الواقع ونراه نرجسياً إلى حد الجنون، وهذا ما نجده عند شعراء تميزوا بالنرجسية وتضخم (الأنا)بشكل مذهل مثل سعيد عقل و…
وإن كانت عزلة المبدع النفسية نتاج واقع يعج بالضغوط النفسية والاجتماعية فإن العزلة الإبداعية أمر طبيعي للمبدع يختاره هو ويجد فيه فرصة ذهبية للإبداع والكتابة، وهذه سمة يتفرد بها هذا المبدع عن سواه …
ونظراً لارتباط الإبداع والعبقرية بالذكاء الحاد، فثمة مقولات وأمثال شعبيّة تطرقت إلى هذا الجانب،ففرط الذكاء يؤدي إلى اضطرب ذهني وعقلي، يصل في كثير من الأحيان إلى مرحلة الهذيان والجنون،لذلك جاء في المثل الشعبي: (من كتر الذكاء طق مخه) وهذا يعطي مؤشراً واضحاً على العلاقة القائمة بين الإبداع والجنون.
ولعل التراث الشعبي أخذ الكثير من الأقوال والأمثال في محاكاة الإبداع، والجنون في الإبداع مثل: المجانين في نعيم، أي إنهم وحدهم من يدرك حقيقة ما يقدمونه من مستوى مميز وراق، فالمبدعون يصلون إلى درجة كبيرة من الهلوسة وعدم الاتزان،وهم وحدهم من يمتلك الحكمة والحقيقة لذلك قيل في المثل الشعبي (خذوا الحكمة من أفواه المجانين)
أو قيل (الجنون فنون) فالمبدع هو المجنون المتمرد على قيود المجتمع وعاداته وتقاليده، هو الرافض لكل حالات الترهل والانتكاس التي يحياها المجتمع ويريد المبدع أن يخلق منها أشياء جديدة مميزة رافضة لكل القيود والقوقعة، رافضة لكل القيود التي يراها المبدع تكبيلاً وأسراً وانتقاصاً من مكانته وتفكيره ورؤاه والتي يراها نقطة تحوّل جوهرية في فكره وحياته، هو إنسان غير عادي في طبعه وفكره وسلوكه…
ولعلّ السوداوية والمعاناة عاملان مهمان في مسألة الإبداع والشرارة التي تطلق كوامن المبدع وتجلياته سواء في الشعر أم الفلسفة أم الفنون او…
لذلك كان أفلاطون يرى أن المزاج والرؤية السوداوية شرط لا بد منه لدى أصحاب المواهب الخارقة والتي تصل حد العبقرية.
إنّ العلاقة الجدلية بين الإبداع والجنون، بين العبقرية والجنون، ليست وليدة العصر الراهن إنما كانت نقطة إنطلاق للكثير من الكتابات والأساطير منذ العهود القديمة،ولو توقفنا قليلاً عند الأسطورة العربية التي ربطت الإبداع بالمكان،كما في وادي عبقر ….تقول الأسطورة: (أنت عبقري، يعني أنك مرتبط بوادي عبقر، أو ناتج عنه، وهو واد سحيق يقع في نجد، يسكنه شعراء الجن، حيث كان لكل شاعر من شعراء الجاهلية قرين منهم يلقنه الشعر. ولم تغفل الأسطورة عن أن تذكر لنا بعض أسمائهم، مثل لافظ بن لاحظ صاحب أمرؤ القيس، وهادر بن ماهر صاحب النابغة الذبياني، إلخ. والمحصلة، أن من يكتب الشعر بجهده وتعبه ومخيلته الواسعة، ليس هو الشاعر الذي نعرفه ونستمع إليه، بل قرينه الجني الذي لا نراه أبداً. أي إن الشاعر، وهو الأعلى قامة إبداعية في العصر العربي القديم، على أساس ما كان من أن الشعر ديوان العرب، مجرد رجل مجنون.)
أياً يكن تفسير العلاقة بين الإبداع والعبقرية.. بين الإبداع والجنون.. ثمة حقائق لا يمكن نكرانها أو القفز فوقها،هذه الحقائق مستمدة من تاريخ وحياة وتصرفات وسلوك العباقرة والمبدعين على مرّ العصور، والتي وسمت بالجنون،حيث كانت حياتهم مشوشة، مضطربة يشوبها الكثير من القلق وعدم الاتزان وصولاً إلى حدّ الهذيان والجنون.
العدد 1117 – 25- 10-2022