أنا ألتوسير العظيم..؟!

الملحق الثقافي- دلال ابراهيم :

في مقال نشرته مجلة لو ماغازين ليتيرير الفرنسية ( Le magazine litteraire ) أدلى فيه فلاسفة عاصروا أو كانوا من تلامذة له بشهادتهم حول شخص الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير، بمناسبة صدور كتابين له بعد وفاته هما ( أحلام قلقة بلا نهاية) وهو عبارة عن قصص أحلام، احتفظ بها ألتوسير في أرشيفه، ذكر فيه حالات ضيق وجودية ولحظات هادئة، كما وسجل فيه ملاحظات ومقاطع من علم التحليل النفسي عندما خرجت من الحلم، هذه النصوص تعبر عن الانهاك الجسدي، القلق، والألم واللاوعي التي كان يتعرض لهم الفيلسوف بين الحين والآخر. إلى جانب كتاب ( أن تكون ماركسياً في الفلسفة )الذي يتضمن تفكراً حول دور الفلسفة في التاريخ، كساحة صراع، تتواجه فيها الاتجاهات، الماركسية مع المثالية، العلم والايديولوجيات ولوازم نظرية واستراتيجية الفكر. وفي شهادته يكشف الفيلسوف هنري ليفي في معرض رده على سؤال حول المقدمة التي وضعها على كتاب (رسائل التوسير إلى زوجته هيلين) والذي أقدم في لحظة لاوعي إلى خنقها حتى الموت وإشارته إلى المرض وانهيار التوسير، وكيفية التفلسف برغم الجنون أجاب: أظن أن الأمرين متصلان، فألتوسير صنع الفلسفة ليس برغم الجنون بل معه. لم يكن جنونه عقبة، ولكنه محركاً للعمل.
وفي المقال ذاته يتساءل لاسوسكي (وهو أحد تلامذة التوسير): من يكون حقاً التوسير؟ ويجيب: رشيق، ذو قوة جسدية كبيرة، كئيب، شغوف بلعبة التنس وكرة القدم، ذو وجه حزين، يرسل بود بسمته وهو يقول وماذا إذن يا كبيري؟ لطلابه في دار المعلمين. كتوماً وسريّاً، كوّن بحماس طلاباً لامعين في الفلسفة: ويشير جاك ديريدا، وهو أحد تلامذته الى القوة المتوهمة والمستنفرة لفكرته.
أما ريجيس دوبريه فيشير الى طيبته العبقرية، الحدسية والودودة. ميشال فوكو يحيي ألتوسير ورفاقه الشجعان ويُلح: افتحوا كتب ألتوسير. وهنا لا بدّ من الإشارة، أنه وبفضل تدخل ألتوسير، يعود لاكان الى محاضراته في عام 1964، بعدما شطب من جدول المؤسسة الفرنسية لعلم النفس التحليلي.
في نهاية السبعينيات، انشغل الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير (1918-1990)، صاحب «من أجل ماركس»، في وضع كتاب أراد له أن يكون دليل إرشاد أو موجزاً بهدف تقريب الفلسفة وإتاحتها لقارئ الفلسفة ومريدها.
يشكل كتاب ألتوسير هذا، في الواقع، موجزاً للنظريات الأساسية والجذرية التي أثّرت في تفكيره الفلسفي الخاص، إلى جانب أن الكتاب مكرّس أيضاً لغاية تبسيط المعرفة ونشرها لمريدي الفلسفة، ولا سيما في ما يتعلّق بالدين والأيديولوجيا والعلم.
ويبدو ألتوسير في عمله هذا كما لو كان يقتنص لحظة خاطفة في حياته قبيل أن تنته إلى قتل زوجته بعد أن أصابه الجنون كما هو معروف، وقد وضع في هذه الكتاب أهم الأفكار التي اشتبك معها لأهم الفلاسفة في النصف الأول من القرن العشرين، ليصح لاحقاً من أهم المنظّرين لقراءة جديدة لماركس، ثم ليكون له لاحقاً من أصبحوا يعرفون بـ «أبناء ألتوسير» ومن بينهم سلافوي جيجيك وجاك رانسيير وآلان باديو وإتيان باليبار.
الكتاب يبدأ بفصل عنوانه «ماذا يقول غير الفلاسفة؟»، ويقف فيه المؤلّف عند الدين وعلاقته بالفلسفة، ومن خلال عشرين مقالة، يتناول صاحب «تحوّل الفلسفة» مواضيع مختلفة من بينها «التجريد التقني والتجريد العلمي»، و»التجريد الفلسفي»، و»ما هي الممارسة؟»، و»الممارسة العلمية للمثالية»، و»الممارسة العلمية للمادية»، و»الممارسة الأيديولوجية»، و»الأجهزة الأيديولوجية للدولة»، و»الأيديولوجيا والفلسفة»، و»الفلسفة وعلوم الصراع الطبقي»، و»الديالكتيك، قانون أم نظرية؟» وغيرها.
يذكر أن ألتوسير معروف بنظرية «القطيعة الإبستمولوجية»، ومقولته بأن التاريخ لا فاعل له، أو أنه عملية مستمرة لا فاعل لها. ويعتبر الفيلسوف الفرنسي المولود في الجزائر أنه قدّم ماركسية جديدة من خلال قراءته المغايرة لفكر ماركس.
بيد أنه, لا أحد من تلامذة ألتوسير وأتباعه وعشاقه، بل خاصة المدرسة الفلسفية الفرنسية، واليسار الفرنسي، قد توقع لوهلة، صيرورة عبقريته الأريبة إلى تلك النهاية المأساوية، بعد الحادث الذي جرى يوم 16 نوفمبر 1980، حينما قتل زوجته هيلين ريتمان داخل شقتهما المتواجدة بالمدرسة العليا للأساتذة بباريس، جراء إصابته بحالة جنون حادة، مما شكل انقلابا في مصير الرجل، لم يكن واردا بتاتا في الحسبان. يقول : «لقد قمت بخنق زوجتي التي جسدت لديّ كل العالم، إبان أزمة عصبية طارئة، شهر نوفمبر 1980 نتيجة خبل ذهني. زوجتي، التي أحبتني إلى درجة أنها توخت الموت، متى عجزت عن تحقيق ذلك. بلا شك، لحظة جنوني وبممارسة لا واعية «قدمت لها، هذه الخدمة»، وماتت دون أن تدافع عن نفسها».
حيثيات القضية، تطرق إليها، ألتوسير عبر صفحات سيرته الذاتية، التي جاءت تحت عنوان: (المستقبل يدوم طويلا)، الصادرة عن منشورات «ستوك» سنة 1992، بعد وفاته.
الفيلسوف المنسوجة روحه من تناقضات لا تنتهي، أطلقت شهرته ست مئة صفحة نشرت بين عامي 1959م و 1968 أي بمعنى فلسفة جديدة لم يألفها الآخرون. إضافة إلى كتابين كبيرين من «رسائل الحب»، الأول «رسائل إلى فرانكا» مترجمة إيطالية تبادل معها عشقًا طويل العمر (1961: 1973م) شهد عليه ثماني مئة صفحة من القطع الكبير، والثاني من سبع مئة صفحة: «رسائل إلى هيلين»، الزوجة الطيبة, رفيقة دربه والتي كانت تكبره بثمانية أعوام، وهي التي مسّد عنقها صباحًا وقادها إلى «موت هادئ»، من دون أن يدري.
الفيلسوف الأشهر بين فلاسفة القرن العشرين، بلغة الفرنسي هنري ليفي في تقديمه الطويل لكتاب «رسائل إلى هيلين»، صرع مآله شهرته بقسوة فاجرة. أوردت محاورته فرناندا نوفارو في كتاب «حول الفلسفة»، الذي عرض فيه أفكاره المتأخرة، ووردت فيه كلماته الآتية: «أضجرتني العزلة مساء، غادرت البيت ومشيت قليلًا فتعبت، جلست أمام الباب، استيقظت صباحًا متفاجئًا، نمت خارج بيتي من دون أن أدري، فقد نسيت أن أتناول الدواء». اختزن ما كانه وما أصبحه في عينين عميقتين وجفنين متلاصقين يثقلان عليهما.
وفي الوقت الذي كان على « كايمان» ( تمساح استوائي ) اللقب الذي كانوا يطلقونه على المعلم ألتوسير في المدرسة العليا للمعلمين، حيث كان يعد الطلاب لامتحانات التخرج، بعدما أصبح لوي ألتوسير واحداً من مهندسي الثورة الفكرية التي حدثت في فرنسا خلال الستينات، وكان واحداً من رواد البنيوية والتحليل النفسي، كان يجب عليه ان يحارب الامراض العقلية التي جعلته يقيم بانتظام في مؤسسة للامراض النفسية. لهذا تعايش جنبا إلى جنب ألتوسير الفيلسوف وألتوسير الذهاني كانوا يتصالحون ويندمجون ولو حاول طوال حياته توزيعهم في دوائر مغلقة ووقائية، فهي ستكون موزعة بين المدرسة والحزب والمشفى.
تبرر السيكولوجية اليزابيت رودنسكو المآل الذي انتهى إليه ألتوسير بأنه كان حتماً نتيجة زجه في المعتقلات النازية لفترة استمرت خمس سنوات كانت كافية بتدمير روحه. وكان ألتوسير قد تم اعتقاله إبان الحرب العالمية الثانية لفترة امتدت من عام 1940 لغاية عام 1945. لم تستقر حياته منذ نهاية الحرب حتى وفاته، وكان يعاني الاكتئاب؛ بل ينسى كثيراً أسماء زملائه وطلابه، وأحياناً ينسى من هو وأين هو؛ ولذا أشار عليه صديقه الطبيب إيتيان، أن يدخل مستشفى الأمراض العقلية والنفسية (سانت آن)، ولكن هيلين، زوجة ألتوسير، رفضت ذلك، ووهبت حياتها لرعايته والعناية به.
ولكن ومنذ ما قبل الأسر كان ألتوسير يعاني من نوبات اكتئاب، ولكنها زادت في الأسر حتى استفحل المرض فصار يعاني طوال حياته الفصام، واضطراباً ثنائي القطب. وهو الذي اجتاز امتحان القبول الصعب في المدرسة العليا من أول مرة، بحيث أن عبقرياً مثل سارتر لم يجتزه في المرة الأولى.
وبعد الحادثة، طلب القاضي التحقيقَ معه في المستشفى؛ لكن الأطباء رفضوا بحجة انهياره العقلي والنفسي. فأمر بتشكيل لجنة من ثلاثة محللين نفسيين، وقدموا تقريرهم؛ فأعلن القاضي أنه غير مؤهل للعقوبة، وتم إغلاق القضية نهائياً. أُصيب الكثيرون بالصدمة من إطلاق سراحه.
ولكن ألتوسير التزم أمام الآخرين بإظهار الحقيقة. أنهى سرد مشهد القتل وسيرة القاتل في ثلاث مئة وخمسين صفحة، انتهى منها خلال شهرين بعد أن برّأه مرضه، وحرّره من جريمة وقعت عليه ولم يهجس بها. أراد من الآخرين أن يحاكموه بعدل، وأن يقاضيه المستقبل بلا تحيّز وتزوير، وألا ينظر إليه «مريدوه» باتهام مرذول.
«هذا هو الحيّز الذي عشته. في المحصلة قاتلت طويلًا وحظيت بلحظات قليلة من السلام والراحة». كلام جاء في رسالة إلى زوجته «هيلين».
وبعد خروجه من المشفى وقد أمضى فيه ثلاثة أعوام علاج، استقر ألتوسير في الريف. وكان يصرخ بالمارة الهاربين خوفاً من منظره الرث البائس « أنا ألتوسير … أنا ألتوسير العظيم ».
العدد 1117 – 25- 10-2022

آخر الأخبار
بين الحقيقة والتزييف..الأمن العام السوري صمّام أمان الدولة الهوية لا تعرف الحدود... والدولة ترسّخها بالرعاية والمسؤولية  أهالٍ من نوى يؤكدون على الوحدة الوطنية ودعم الجيش والقيادة من مظاهرات الثورة السورية في باريس.. الدكتورة هنادي قوقو "الثائرة الرقيقة" الدفاع المدني يحمّل فصائل السويداء مسؤولية اختطاف حمزة العمارين: العمل الإنساني ليس هدفاً مشاعاً مظلوم عبدي: اتفاقنا مع دمشق خطوة محورية نحو الاستقرار وبناء جيش وطني جامع  " الخارجية " تُعلن عن زيارة وفد تقني إلى السودان لبحث أوضاع الجالية السورية " الخارجية" تطلق خدمات قنصلية مؤقتة للجالية في ليبيا بانتظار افتتاح السفارة الرسمية منظمات حقوقية تحذر: خطة لبنان لإعادة اللاجئين السوريين تُهدد بترحيل قسري جماعي  مبادرة الغاز الأذربيجاني إلى سوريا تحظى بإشادة أميركية وتأكيد قطري على دعم الاستقرار الخطوط الجوية التركية تعود إلى أجواء حلب بعد 13 عاماً من الانقطاع "غرف الزراعة":  آلية جديدة لتحديد أسعار الفروج الحي من الدواجن الوزير الشيباني: الجاليات السورية ركيزة لتعافي البلاد وتعزيز حضورها الخارجي تحسين واقع الشبكة الكهربائية في القنيطرة مركز صماد الصحي في درعا  بالخدمة محافظ حمص يدشّن مشروع إعادة تأهيل مشفى تدمر الوطني بتمويل من الدكتور موفق القداح البيت الأبيض يكشف نسب الرسوم الجمركية الجديدة على سوريا وخمس دول عربية ترحل القمامة والركام من شوارع طفس بدرعا انطلاق المرحلة الثانية من مشروع الطاقة القطري في سوريا: 800 ميغاواط إضافية لتعزيز الشبكة وتحسين التغ... العاهل الأردني يعيّن سفيان القضاة سفيراً فوق العادة لدى سوريا