الملحق الثقافي- وفاء يونس:
ربّما من أكبر الأخطاء التي نقع فيها حين نظنّ أنّ اللغة مشروعٌ غير رابح ويُنظر في الوطن العربيّ إليها على أنّها ترف خارج الحاجة، لهذا لا تعطى أهميةّ كبيرة إلاّ في المناسبات….
هنا ثمّة قطيعة معرفيّة مع الماضي بل والحاضر, رّبما عن سابق قصد وإصرار أو عدم انتباه ..وهي كالتالي :لماذا لم يستمر الاستثمار في اللغة كما كان ذات يوم من العصر الجاهليّ حتى الآن..؟
قد يسأل البعض :كيف كان .. يبدو الجواب بسيطاً سهلاً, لا عناء في العثور عليه..
كانت القبائل تحتفل ببزوغ نجم شاعر فيها لأنّه المحامي والمنافح عنها، هو وزير إعلامها حينها، والنّاطق الرسمي باسمها ومؤرّخ أياّمها ومخلدها والاستثمار هنا معنويّ لا يزول وهو باقٍ لحد الآن..
وثمة استثمار آخر ألا وهو الكسب الماديّ من المديح, هذا ليس عابرًا.. بل كان موجوداً واستمر في العصر الإسلاميّ والأمويّ والعبّاسي ..ويرى البعض أنّه بلغ ذروته مع المتنبي..
ومن باب الطرافة يروون أنّ أحد الخلفاء أعلن أنّه سيكافىء مادحيه ثقل القصيدة ذهباً..
يأتيه الأصمعيّ حاملاً قصيدة مكتوبةً على حجر كبير…
ناهيك بما يُروى عن شراء كتب من مؤلفين بثقلها ذهباً أو فضة ..ولم تكن قليلة الوزن لما تكتب عليه من جلود وأوراق وغيرها ..
هنا يمكن الإشارة إلى مكافآت الأمراء والملوك لمصنّفي الكتب والمؤلّفات, فيتم منح هذا بستاناً وذاك جوارياً وذهباً ما جعل حركة التأليف تنشط جداً ..
إنّه استثمار بين عدة جهات أدرك أهميته الحكام وولاة الأمر.. ونشأت صناعة الورق ومهنة الورّاقين وتأجير الكتب لمن لا يستطيع دفع ثمنها.
هل نذكّر أيضاً بالقصائد التي كانت تقال كوسيلة إعلانية…مثل قصيدة …قوم هم الأنف..
أو قل للمليحة في الخمار..
أليس هذا كلّه استثماراً في اللغة التي هي مادة كلّ هذه الفنون ..؟
ولا ندري لماذا لا يرى المعنيون الآن أن ّالاستثمار في اللغة ضربٌ مهمّ بل ومربح جداً..
كان العرب أوّل من استثمر باللغة
وحين ترسخ الاستثمار نفروا منه
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ الاستثمار في اللغة كان مزدهراً منذ نهايات القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين حيث لم يكن الاقتصاد العربيّ أخذ شكله ولم تكن الثروات الباطنة قد اكتشفت كلّها …في هذه المرحلة كانت الطباعة رائجة ما بين دور نشر ومجلات وصحف فعلى سبيل المثال :في اللاذقية وحدها مطلع القرن العشرين كانت تصدر أكثر من ٢٠ مطبوعة بين يوميّة وأسبوعيةّ ..فكيف بالمحافظات الكبيرة دمشق وحلب ..ألا يحتاج ويؤدي إلى دورة رأس مال وعمل …
اللغة والنقود..
في دراسة مهمّة حملت عنوان ..اللغة والاقتصاد للباحث :فلوريان كولماس صدرت عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية ترجمها دكتور أحمد عوض وحملت الرقم ٢٦٣ عام ٢٠٠٠م.
يقدّم الباحث دراسة معمقة في هذا الإطار ومن اللافت تلك العلاقة التي يقدّمها بين اللغة والنقود ..ص٨ يقول ..
إنّ الكلمات تسكّ كما تسكّ النقود وتظلّ متداولة, ما دامت سارية المفعول فهي أيّ الكلمات عملة التفكير ونحن نمتلك منها أرصدة سائلة بقدر ما نمتلك ناصية لغة معينة, وعندما نتفاهم مع أحد ما فإننا نتفق على ثمن يجب دفعه وعندما لا نكون مخلصين فإننا لاندفع إلاّ كلاماُ زائفاً.
وعندما نصف اللغة والنقود معاُ بأنهما رصيدان فإنّما نلفت النّظر إلى دوريهما في تحقيق الفرد ..فهما قدرة كامنة تجعل تحقيق الفرديّة ممكناً عن طريق توسيع نطاق الفعل عند من يمتلكونها وبالتالي تعينهم على التكيّف مع المجتمع.
ومن اللطيف أنّه يعد الكمبيالة أو السند ذات طبيعة لغويّة والكلمات في الواقع لشيء ليس قائماً في طبيعته ..والافتراض السّاذج بأنّ للكلمة معنى متأصلاً فيها إنّما هو افتراض يشبه التصور الساذج بأنّ للنقود قيمة في حدّ ذاتها..
ولكن الكلمة والعملة كلتيهما لا يمكن أن تكونا على ما هما عليه في الواقع إلاّ لأنّ الأمر ليس كذلك ..فهما في الأساس أمران اصطلاحيان ويمكنهما أداء وظيفتيهما بفضل تجريد هما فالأولى عبارة عن أداة تبادل للسلع المعنويّة والأخيرة عبارة عن تبادل للسلع الماديّة ..
وهذا يذكر بالقول التعبيرات والكلمات الأخرى ذات القيمة العظمى وذات القيمة الدنيا تخرج من فم المتكلّم تماماً مثلما تصدر من الخزانة كلّ أنواع العملات الذهبيّة والفضيّة والنحاسيّة.
وإذا كانت الدراسة تذهب في العمق وتحلل اقتصادات اللغة، فإنّها بالوقت نفسه تعمل على التسويق للغات الغربية بمعنى آخر فعلا تبدو دراسة نظرية تطبيقية من خلال الدعاية للغرب ولغاته وكان لافتاً أنّه يقتبس قولاً لملك المغرب الراحل حين يدعو المغاربة إلى تعلم اللغات الغربية لاسّيما الإنكليزيّة والفرنسيّة من أجل الحياة فحسب زعم الملك يعيش المغرب في قارة لغتها إنكليزيّة وفرنسيّة ولهذا يجب الاندماج اللغويّ بها من أجل اقتصاد قويّ.
بغض النظر عن هذه الاستلابيّة والتبعية فإنّ الاقتباس هنا يقدّم ما في الدراسة من خيوط خفية تصبّ في خانة حرب اللغات ,ولكن هذه المرّة من باب الاقتصاد أو الحرب الناعمة..
ويتابع الباحث مسألة اللغة والاقتصاد، لاسيما مع تأسيس الولايات المتحدة الأميركية وكيف نبّه المؤسسون التجار إلى خطر تهديد التجارة للغة ص ٦١ ..
(ومهما تكن التجارة ضرورية ومربحة فإنّها تفسد اللغة كما تفسد الأخلاق ).
ولكن اللافت أنّ التجارة كانت عاملاً لانتشار اللغة الإنكليزية، وليس لإفسادها وربما يكون السبب في ذلك أنّ صانع الشيء هو الذي يطلق عليه اسمه وهو من يروجه بلغته وبالتالي كانت الصناعات والتجارة الأميركية هي الّسائدة والعالم مستهلك ومازال الأمر قائماً لحد الآن ..فمن ينجب الطفل كما يقول العامّة هو من يطلق عليه اسمه.
أميركا والصّناعات اللغويّة..
مخطىء من يظنّ أنّ الّصورة التي تروج عن الولايات المتحدة ومفادها أنّها لا تؤلف ولا تقرأ..صحيح أننا نتداول هذا الوهم ولسنا معجبين بأمير, لكننا حقيقة مخطئون بما نعتقده فالامبراطورية تؤّف وتقرأ، وتنشر وتطبع والصّناعات الثقافيّة فيها تبلغ مدى كبيراً جدّاً..وهذا تشير إليه الدراسات.
وإلى هذا يشير آرثر اذا بيرغر في كتابه ..وسائل الإعلام والمجتمع وجهة نظر نقديّة ..ترجمه إلى العربية صالح خليل أبو أصبع وصدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية ٢٠١٢م وحمل الرقم ٣٨٦ ..إذ يقول في الفصل المعنون ب: جماهير وسائل الإعلام.. التأثيرات ص ٩٧..في عام ٢٠٠٣م وفي الولايات المتحدة تمّ نشر ١٦٤ الف كتاب ..أيّ قرابة ٤٥٠ كتابًا يومياً وقد نشر يومياً٤٩ عنواناً مختلفاً في علميّ الاجتماع والاقتصاد و٤٦ عنواناً قصصياً و٢٨ عنواناً في العلوم و١٩ عنواناً في الفلسفة..
وقد بلغت قيمة صناعة نشر الكتب ٢٣.٧مليار دولار أيّ أكبر من صناعتي السينما وألعاب الفديو مجتمعين.
ومن اللطيف أنّ يقدم الباحث رأياً نقديّاً بهذه الكتب ويقول إنّ عدداً كبيراً منها كان من نوعيّة رديئة …وعلينا أن نتذكر أيضًا أنّ كتب النخبة لم تكن جيدة تماماً وفي التحليل النهائيّ ما يهمّ و مهارات الكُتُّاب ..ونحن نضيف إلى ذلك المهم حركة دوران رأس المال الذي حرّكته هذه الصّناعة التي مادّتها الخام اللغة، وأدّت إلى ناتج قيمته 23,7مليار دولار عام ٢٠٠٣م …
وهذا ما يعيدنا إلى تلازم فكرة اللغة والاقتصاد عند فلوريان كولماس..
وفي أوربا اقتصاد اللغة مزدهر تماماً من حيث حركة النشر والطباعة والتنافس قائم بين دول الاتحاد الأوروبي…
ترى ألا ينسحب ذلك على الصناعة الثقافيّة في الوطن العربي ..بالتأكيد علينا أن نلفت الانتباه إلى أنّ في سورية أكثر من ٣٠٠ دار نشر معظمها في دمشق، وقد أدّت دوراً مهمّا جدًا في الّنشر والّتوزيع والطباعة..
ومن باب الفكرة الاقتصاديّة دائماً كنت أشجّع على طباعة الكتاب، أيّ كتاب شرط أن يحمل مستوى مقبولاً ..من باب الفكرة الاقتصاديّة وحصيلة دورة العمل التي أشرنا إليها سابقاً.
ومعارض الكتب هي سوق مركزيةّ وضروريّة لهذا النّشاط الاقتصاديّ الذي يتجدد كلّ عام.. ويتأثر كما أيّ نشاط اقتصادي بما يجري ..
مجالات واعدة ..
تنبّه المفكرون والباحثون اللغويون العرب إلى هذا اللون من الاستثمار البكر وقدّموا دراسات عنيت بهذا الجانب لكن رأس المال العربي ّعلى ما يبدو بقي بعيداً عنها..
ويعدد الدكتور محمود أحمد الّسيد في كتابه في سبيل العربية الصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام ٢٠١٥م، يعدد مجالات الاستثمار في اللغة العربيّة ويلخصها بالآتي:
١_الاستثمار في مجال الموسوعات والبنوك الرقميّة العربيّة
٢_الاستثمار في ترجمة أمّهات الكتب العلمّية وتزويد الجامعات العربيّة بها، وفي الترجمة الآليّة ولاسّيما في المجالات العلميّ والتقانية..
٣_الاستثمار في وضع معاجم الكترونيّة خاصّةً بالنحو والصّرف والبلاغة والعروض
٤_الاستثمار في وضع برامج تفاعليةّ حاسوبيّة لتعلم اللغة العربيّة لأبنائها ولغيرهم ..
٥_الاستثمار في وضع برامج دينية مبسطة لتفسير القرآن الكريم والحديث النبويّ الّشريف وتوجه خاصةً إلى دول العالم الإسلاميّ..
٦_الاستثمار في وضع برامج موجّهة للطفل العربيّ على غرار برنامج (افتح يا سمسم )
٧_التعامل مع المعلومات بوصفها ثروةً أو ساعة اقتصادية مهمّة.
٨_الاستثمار في تحويل الّنصوص إلى كلام والكلام إلى نصوص.
٩_ الاستثمار في زيادة المحتوى الرقميّ العربيّ على الشّابكة وقد تبين غياب استراتيجية عربية لفعل ذلك.
١٠ _ الاستثمار في مشروعات إصلاح الكتابة وتيسير قواعد الإملاء والنّحو.
١١_الاستثمار في تنقية الوثائق العامّة والمناهج التربويّة من التمييز الجنسي.
١٣_ الاستثمار في مجال صوغ المصطلحات.
١٤- الاستثمار في وضع برامج تعنى بإظهار الجوانب المضيئة في تراثنا العربيّ.
١٥_ الاستثمار في وضع آليات لمراجعة نقديّة للأفكار المنتشرة عبر التقنيات المعاصرة والتي تُوظف من قبل أعداء الأمّة لتشويه صورة العرب والمسلمين ..والاستثمار أيضاً في وضع برامج موجهة للأسرة العربيّة.
هذه قائمة أوليّة يقدمها الدكتور السيد للاستثمار في اللغة العربيّة, ولقد أثبتت الدراسات كما يقول ص ١٩٨ وكما أشرنا سابقاً إلى أنّ اللغات يمكن أن تعد مشروعات استثمار رأسمالي بالمعنى الحرفيّ لا المجازي..
والعجز عن تصدير اللغة القومية يجر حتماً إلى استيراد لغة الآخر..
ولهذا الاستيراد كلفته الماليّة من هنا علينا أن نعمل على فرض لغتنا في مجال التّعامل والخدمات وتعريب المحيط من شأنه أن يدفع بالجهد ويحقق نموّ اللغة ومن ثمّ المعرفة فالاقتصاد, ويكون ذلك باستخدامها في مجال النفط وصناعته والاستثمار فيه مما يدفع المستثمرين الأجانب إلى تعلمها باعتبارها من أدوات العمل الضروريّة..
كذلك يمكن فرض اللغة شرطاً على العمالة الوافدة للدول العربية المستقبلة كما تحاول أن تفعل دول الاتحاد الأوروبي.. وكذلك فرض تعريب الوثائق ومطبوعات السّفر والخدمات البنكيّة وغيرها…
وهنا يمكننا أن نضيف أنّ ذلك حاصل من خلال ما يُسمّى الّترجمان المحلّف, وما تطلبه الجهات المعنية بمثل هذه الوثائق من ترجمة مصدقة
وسوق اللغة العربية استثماراً رّبما أهمّ من النفط كون اللغة العربية هي الخامسة عالميّاً من حيث عدد المتكلمين وما دامت مرجعيّة حضاريةّ دينية لأكثر من مليار مسلم غير عربي ص ٢٠٠
وكما يقول عبد السلام المسدي: اللغة رأس مال مجرد في حاجة إلى أن يصونه أهله من كلّ ما قد ينال منه فاللغة هنا كالأرض كلتاهما مجلبة الأطماع وهي أمانة على عاتق أصحابها..)
وهنا علينا أن نقول لم تعد رأس مال مجرد فقط، بل رأس وأيّ رأس مال ..ماديّ ومعنويّ ولنردف أنّ مقولة الكلام ما عليه ضريبة قد سقطت تماماً ..فالكلام مال و أيّ مال..
(التخطيط اللغوي ..مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز لخدمة اللغة العربية الرياض ٢٠١٥… محاضرة للدكتور عبد السلام المسدي).
العدد 1118 – 1-11-2022