الملحق الثقافي- فؤاد مسعد:
عادة ما تقوم الدولة عبر مؤسساتها الثقافية بتبني مشروعات إبداعية قد لا تحقق ربحية، وربما تكون خاسرة أحياناً على الصعيد المادي ولكنها تحقق من خلالها حضوراً ثقافياً يحمل جرعة من الوعي والفكر المستنير والرؤى التي لا بد من أن تتصدى جهة ما لإنجازها بعيداً عن المنحى التجاري وهيمنة اللغة الاستهلاكية، فيأتي الاستثمار في الشؤون الثقافية والفنية والإبداعية أتوّه عبر مناحٍ مختلفة لأن الهدف أبعد بكثير من الربح المادي، ويتجه نحو الربح في ميادين أخرى بما فيها نشر الثقافة وتنمية المهارات وإعطاء الفرص لموهوبين حقيقيين قد لا يجدون أمامهم سبلاً أخرى أو أبواباً مشرّعة لترجمة أحلامهم وطموحاتهم ومثال ذلك مشاريع دعم الشباب في مجالي السينما والمسرح إضافة إلى العديد من الأمثلة الأخرى، كما أن الكثير من الأعمال الإبداعية (سينما ، مسرح ، موسيقا..) كانت سفيراً لسورية تحمل رسالتها السامية والمعرفية في العديد من الدول لدى عرضها فيها، وبالتالي هو استثمار يدرك تماماً أهدافه وإلى أين يتجه في مسعاه.
يقف في الجهة المقابلة القطاع الخاص الذي يُقسم إلى قسمين، الأول هو المنتج الذي يعمل ضمن الحقل الإبداعي أصلاً كشركات الإنتاج الفنية والدرامية والسينمائية، ويتمثل القسم الثاني بالقطاعات الاقتصادية والصناعية والاستثمارية المختلفة (معامل ، شركات مقاولات ، شركات اتصالات ..) وهو القسم غير المُنتج للمواد الثقافية والفنية ولكن يمكنه المساهمة في دعم هذا الحراك.
وهنا لن نتطرق للقسم الأول الذي يتناول آليات عمل القطاع الخاص في الإنتاج الفني والإبداعي فهي آليات لها ما لها وعليها ما عليها رغم أنه لا يمكن إنكار الدور الذي يضطلع فيه القطاع الخاص ويعمل على أساسه بغض النظر عن العادات والتقاليد التي ارساها أو يسعى إلى إرسائها، وبغض النظر عن خضوعه لمتطلبات السوق بما في ذلك غياب شبه تام لحركة الإنتاج السينمائي (إلا فيما ندر) وغياب تام لتحسين وضع صالات العرض السينمائية والمسارح .. ، ولكن سيتمحور الحديث هنا عن القسم الثاني المعني بدعم الفن والثقافة وتقديم الرعاية وربما المشاركة في الإنتاج أو خوض غمار تجرية الإنتاج الكامل، الأمر الذي يُقدم لمشروعات فنية طموحة يبحث أصحابها عن التمويل المناسب لتحقيقها وهذه الآلية معمول بها عالمياً ولها نظمها وأدواتها.
ومع وجود شركات ومؤسسات تقوم بذلك فعلاً ولديها اهتمام واسع بالأنشطة الثقافية والفنية، لا بد من السعي إلى إرساء مفاهيم تعتبر دعم القطاع الخاص لهذه المشاريع بحد ذاته ثقافة ينبغي تكريسها في المجتمع وأن يكون لها آليات مقوننة في التعاطي معها ، فمن الأهمية بمكان إيجاد بيئة قانونية تشجع وتدعم هذا الحراك وتمنح التسهيلات والمغريات لتتحول الحالات الخاصة الداعمة والمستثمرة في الميدان الثقافي إلى حالات عامة منتشرة لدى الكثير من أصحاب رؤوس الأموال، وبذلك تحمل هذه المفاهيم بين طياتها مصلحة مشتركة لكلا الطرفين، ولكن كيف يمكن وضع النواظم والضوابط لهذا الموضوع وكيف يمكن تشجيع الفعاليات الخاصة على تقديم هذا الدعم ليتحول إلى ثقافة ومفهوم عمل يُترجم على أرض الواقع فيكون رافداً حقيقياً ومنتجاً للحراك الفني والثقافي في سورية ؟.. مما لا شك فيه أن هناك العديد من الأمثلة والتجارب الكثيرة حول العالم التي تصب في هذا المنحى، كأن تُعفى المنشأة الاقتصادية أو الصناعية أو الإنشائية بنسبة معينة من الضريبة طالما أنها تقوم بدعم أو إنتاج أو المساهمة في إنتاج عمل إبداعي (مسرحية ، فيلم سينمائي ،..) ، وهذا التشجيع يمكن أن ينجر إلى مرافق أخرى وبصور وأشكال متنوعة تخدم في النتيجة المسار الابداعي، وعلى سبيل المثال من الأهمية بمكان أن يكون في المولات التجارية مجموعة من دور العرض السينمائية الصغيرة التي تتمتع بمستوى لائق وبتجهيزات متطورة.
الأمثلة اليوم عن الاستثمار في المجالات الثقافية بما فيها السينما والمسرح والموسيقا .. باتت شحيحة جداً وتقتصر على مجموعة معينة من الشركات والمؤسسات، في حين أن هذه الدائرة يمكن لها الاتساع بشكل أكبر إن تم تبني الموضوع من قبل مختلف الجهات المعنية وإعطاء التسهيلات اللازمة، مما يساعد على زج عدد أكبر من المساهمين فيها لتكر السبحة فيما بعد .. وعادة ما تتراوح أهمية المُنتج الفني الذي يخرج إلى النور من خلال هذه المساهمات تبعاً لأهمية الدعم والرعاية بين مسرحية سطحية بسيطة تمرر كيفما اتفق فتكون إعلاناً للجهة المنتجة أكثر منها عملاً إبداعياً، وبين عمل فني ضخم أو هام يحمل قيمة فكرية وجمالية ومعرفية ويحقق خطوة نحو الأمام، وكلما اتسعت دائرة المشاركين في هذه العملية كلما تم تنظيمها بشكل تلقائي وأكثر دقة ويتم حينها الفرز بين الغث والسمين، بين الحقيقي والمزيف .. وهذا الأمر كان حاضراً بشكل أكثر فاعلية على الساحة الثقافية السورية في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي من خلال نماذج بقيت راسخة في الذهن.
لا بد للقطاع الخاص أن يأخذ دوره الطبيعي من هذه الزاوية على خارطة المشهد الثقافي والإبداعي والفني السوري بعيداً عن التفكير برهبة التجربة ومخاطرها وحساباتها، ولكن ذلك كله يستدعي إثارة مجموعة من التساؤلات من نوع : إلى أي مدى القطاع الخاص معني بالحركة الفنية والثقافية في البلد اليوم خاصة أن المؤسسات والجهات غير الثقافية والفنية لم تستطع أن تشكل حراكاً كاملاً ضمن المجتمع ؟ هل دخول القطاع الخاص للاستثمار في الثقافة بين وقت وآخر يبشر بالخير للقادم من الأيام أم أنه لا يتجاوز كونه طفرات هنا وهناك أم تراه عبارة عن «بالونات اختبار» فردية قد تتكرر أو تتقهقر ؟ والأهم من ذلك كله، لماذا لا يأخذ مكانه الطبيعي حتى الآن؟.
العدد 1118 – 1-11-2022