الملحق الثقافي- دلال ابراهيم:
حين اقترح علينا السيد مدير التحرير في الملحق الثقافي عنواناً لملفنا هذا الأسبوع ( الاستثمار في الصناعة الثقافية ) راعني العنوان، وللوهلة الأولى أردت الاعتذار عن المشاركة به.. استثمار !!! وثقافة!!
لا يمكننا القول أن الكتاب هو مجرد كلمات وحروف, وإنما أيضاً يحتوي على حكايات من الأرقام والأموال الضخمة.. بحيث يمكننا أن نلج عالم ( صناعة الكتاب). وهذا ما تكشفه لنا قائمة المجلة الاقتصادية الأميركية ( Forbes ) في تصنيفها السنوي للكتّاب الذين يجنون الأموال الطائلة عبر كتبهم، وتطلق عليهم اسم ( الكتّاب الذين تبيض أقلامهم ذهباً ).. ولكن المفاجأة والمفارقة، أن القائمة التي تضم 15 كاتباً هي دوماً من الأنكلوساكسونيين؟؟ طبعاً الكتّاب يجنون أرباحهم من ريع حقوق النشر أو من تحويل عملهم إلى الدراما أو السينما.. و حين حاورت مجلة اتلانتيكو( Atlantico ) الالكترونية الصحفي في القسم الثقافي لصحيفة لو فيغارو الفرنسية محمد العيساوي والكاتب انطوان بوينو.. وكانا قد نشراً مقالاً في لو فيغارو عن موضوع غياب أي اسم من الكتّاب الفرانكوفونيين عن القائمة, أوجز العيساوي الأسباب إلى استعانة الأميركيين بورشة إبداع أدبي غزير, أو يمكن القول ( مصنع ) حيث ينشر الكاتب في العام الواحد أحياناً حوالي أربع روايات، حتى جيمس باترسون والذي يحتل اسمه رأس القائمة لسنوات متتالية، نشر في عام واحد 12 رواية, عبر الاستعانة بجيش من الكتّاب يمنحهم اسمه , علاوة على انتشار اللغة الانكليزية على نطاق واسع..ولكن للكاتب التشيكي فاتسلاف هافل, والذي أصبح فيما بعد رئيساً للتشيك, قبل أن يرحل عنا في عام 2011 رأياً آخراً في هذا الشأن « عندما نتحدث عن جني الأموال من وراء القراءة وتوزيع الملكيات الكتابية, أجد نفسي دائماً وكأنني في مناقشة عن الرأسمالية « وذلك في حديث له مع مجلة ( Cultur Enjeu) بينما كان يشبك يديه بين شعره بعنف، كما لو كان يريد نتفه.. وهي إشارة تعبر عن غضبه أكثر من الكلمات».
يرى هافل في حديثه, والذي يخضع فيه علاقة السوق المتوحشة مع الكتاب ومؤلفيه لمبضعه ضمن عملية ( صناعة الكتاب ) وقمت بترجمتها بتصرف.
ثمة الكثير من الكتّاب لا تتوفر لديهم فرص النشر, ملايين من الكتّاب الناشئين يحلمون بأن يحصلوا على اعتراف دار نشر بهم وتنشر لهم على حسابها, فهذه هي الطريقة الوحيدة لكي يصبحوا بها كتّاباً بالمعنى الكامل.. ولكن لو كنا في سوق متوازن يمكن للناشر المخاطرة.. بحيث تصبح الكتب التي تلقى رواجها أشبه بالقاطرة لتلك الكتب التي لم تلق حظوظها في الأسواق, وهكذا يمنحون المؤلفين فرصة للتعرف عليهم, وللقراء فرصة اكتشافهم.. ولكن وللأسف فإن الكاتب حين ينشر يجد نفسه يتعامل مع منتج وموزع وسوق, وكل هؤلاء يعلقون آمالهم بالنجاح على المؤلف, أي بمعنى المال والكثير من المال, يريدون للمؤلف أن يكون عامل ربح, ويتيح لهم تحقيق قيمة مضافة- أرباح. أي أن الكاتب الذي أمضى أشهراً منكباً على طاولته يكتب, وربما حتى سنوات, يتم إطلاقه في الأسواق, ليصبح منتجاً يتم بيعه وشراؤه واستهلاكه, باختصار: يصبح سلعة.
وهذا السوق له قانونه, الذي ينص على أن المال ينبغي أن يؤتى ثماره, وقاعدته الحديدية ليست فقط استرداد نفقاته، بل أيضاً زيادة الأرباح.. وهي قيمة مضافة شرعية ومعقولة.. ولكن في منطق المال, القانون الوحيد هو المزيد من المال ودوماً المزيد. وضمن مسار تطوري بطيء، ولكنه لا يرحم، فإن هذا المنتج الثقافي يقع جزء كبير منه تحت رحمة ضربة ثروات مختلفة ورعاة مهتمين, صناديق استثمار، منشآت مالية مجهولة الهوية معاييرها هي التوسع لكسب المزيد.. وبمجرد أن ينجحوا في التوسع يبحثوا عن آخر, يمتصوا الأصغر- في محاولة لاحتكار السوق وفرض الأسعار.. ففي النشر كما في صناعة الآلات، يتمركز رأس المال، وتزول الاختلافات.. من أجل ربح ينمو لصالح عملاء غير مبالين بالمنتج، بل بما يدره عليهم.. وبالتالي، وضمن هذا السياق، من العبث البحث عن ناشرين مستقلين أو مؤلفين بدون صناعة كتاب.. ولم يسبق وأن عاش المؤلف والمنتج المستقل مثل هذه الظروف المحفوفة المخاطر.. تلك المخاطر التي تتجلى للقارىء في المكتبات.. بحيث بتنا نحن معشر المؤلفين نشهد اختفاء أولئك الذين نحتاجهم, الناشرين المستقلين الذين يخاطرون حباً بالأدب, والمكتبات المستقلة التي تختار كتبها لعرضها، التي تعرف روادها وتقيم معهم حوار ثقافي, وهذا الاختفاء كان لصالح الأسواق الضخمة للكتاب ( Super Marché). فلكي يتم توزيع الكتب, الكثير من الكتب, نحن بحاجة إلى رأس مال.. والذي بدوره يتطلب أرقام أرباح متزايدة. وحتى وإن تم إدارتها من قبل أهل الثقافة، غالباً ما ينتهي بهم الأمر إلى الاستسلام.. وضمن هذا المنطق, حتى المكتبات الضخمة تصبح مهددة في حال رأى صندوق الاستثمار أن البيع على الانترنيت مربح أكثر, وبالتالي سوف تختفي المكتبة الكبيرة كما الصغيرة، وقد وصلنا بالفعل إلى المرحلة التي أصبح فيها ضرورياً عليها الدفاع عن وجودها.
الواقع أن المكتبات تفتح لنا فضاء, بوسعنا من خلاله الالتقاء بأصدقائنا, الاختباء فيها مساءات السبت حينما نكون بمفردنا.. إنها توفر حيزاً صغيراً لتطور ثقافي ضمن مشهد تجاري يهيمن عليه الجينز والكعك والمرطبات, ودون مقابل باهظ, فقط أن تأتوا دوماً، وأحياناً شراء كتاب بسعر التجزئة.. تلك أحد الأسباب التي حدت بالقراء لمحبة المكتبات.. وبدلاً من البحث عن الأسباب التي تدفع لاختفائها ( لصالح المكتبات الالكترونية )علينا أن نعدد الأسباب التي جعلتها مازالت حتى في عصر ( أمازون ) ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها..
لا شك أننا ننظر بعين الاعتبار إلى رأي الكتّاب, القائل أن سعر الكتاب الثابت من شأنه أن يحميه من حمى المنافسة الجامحة, فالمنتج الثقافي الذي يتم تسليمه لقوانين السوق محكوم عليه بالزوال.. لأنه في الوقت الذي سيجد فيه رأس المال مكاناً آخر أكثر ربحاً سيتوجه إليه.. دون محاولة « إعادة هيكلة، تحسين وتجميع وتوحيد» أي بالمختصر: هدم جوهر هذه الأماكن المحورية والتي هي دور النشر وباعة الكتب المستقلين( أكانت كبيرة أم صغيرة ).
وبالتالي, من مصلحتنا بصفتنا كتّاباً ألا يخضع الكتاب لمنطق زيادة المبيعات وتحقيق الثروات من ورائها.. ففي الإمكان بيع الكتب التي تحقق أفضل المبيعات بسعر منخفض لتحقيق الربح، ولكن ونظراً لتآكل هامش ربح المكتبة, فلن يكون لديها وسائل للاحتفاظ في مستودعاتها بالكتب الأقل مبيعاً.. وهذا بالنسبة لمكتبة صغيرة هو الأسوأ، لأنه حينها ليس أمام صاحبها سوى إغلاق مكتبته.. بينما يميل الناشرون الكبار إلى عدم نشر إلا الكتب التي يعتقدون مسبقاً أنها ستكون من أفضل الكتب مبيعاً- إلا في بعض الاستثناءات النادرة- ( وأحياناَ، كما في الولايات المتحدة، يتم الكتابة وفقاً لقواعد يمليها قانون التسويق). وهذا يقودهم حتماً إلى إهمال التنوع من خلال استبعاد المؤلفين الذين لا يستوفون معايير النجاح للوهلة الأولى.
في إحدى المرات رسم جون لو كاري- الكاتب البريطاني الذي كانت تحقق كتبه أفضل المبيعات – في حديث له مع الناشرين الألمان هذه النتائج بدقة شديدة.. حيث قال «غالباً يصل إلى النشر هواة ( متنورين) بطريقة غامضة, والمشكلة فيهم, والذين هم من أفضل الناشرين, هي أنهم يخضعون لآليات السوق المفترسة، وليس لديهم أي مظلة حماية.. هم مثقفون وليسوا ممولين. ومنذ بضعة أعوام وافقت على التحدث لصالح تحرير أسعار الكتاب.. وكان ذلك خطأ فادحاً.. فقد ألغت صناعة الكتاب البريطانية تحديد سعر الكتاب. وسلمنا أنفسنا إلى قوى السوق، وكان ذلك إعلان موت للمكتبات المستقلة.. حيث ارتفعت أسعار الكتب بعد أول انخفاض، وكانت تلك ضربة قاتلة لدور النشر المستقلة.
مرة أخرى علينا التأكيد أنه لا ينبغي التعامل مع الثقافة بجميع أشكالها كسلعة، بل ثقافة واسعة معمقة متاحة لجميع أفراد المجتمع بأسره.. والمواطنون المثقفون هم الذين سيبتكرون ويصنعون المنتجات الجديدة التي تعتمد عليها أيضاً أرباح الشركات متعددة الجنسيات إلى حد كبير. وبالتالي، بدلاً من التعرض لإجراءات قصيرة النظر, ينبغي حماية الثقافة, وبشكل خاص الكتاب والاهتمام به وتقديم المساعدة له، إذا اضطر الأمر، لأن الثقافة الثرية والمتنوعة تمثل خير ضمان واستثمار لمستقبل البشرية.
وفي هذا السياق, قد يبدو المطالبة بتثبيت سعر الكتاب خطوة تافهة, ومع ذلك, يعتبر هذا علامة قوة, فهو يعبر عن الرغبة في الحماية من قوانين السوق, الذي ينقل الغذاء الثقافي اليومي لنا, وحيث المكان الذي نفضل الذهاب إليه.
قيمة مضافة، احتكار، استثمار، ربح، سوق، عملاء، صندوق استثمار.. كان لدى فاتسلاف هافل الحق, نرغب بالحديث عن الأدب، القراءة، الثقافة، ولكن نجد أنفسنا في حديث عن الرأسمالية.
العدد 1118 – 1-11-2022