الثورة- أديب مخزوم:
التشكيلية تولين ديمة قباني تخطت في معرضها، التركيبي ، في غاليري زوايا، الأبعاد الثلاثة، في محاولة لإيجاد بُعد رابع يمكن أن يطلق عليه بعد الفن التركيبي، من خلال التركيز على القطن السوري، وخيوطه كمادة أساسية في تشكيلها الجداري والفراغي.
والبعد الرابع يعني أنها تنظر في الأفق، وتتخطى زوايا النظر التقليدية للوصول إلى الأثر المزلزل ، الذي يحقق حالات الصدمة البصرية لدى المشاهدين، ويدفعهم إلى التساؤل والدخول في مساحة الحوار الثقافي.
فالفن التركيبي يهدف إلى تغيير ثقافة التعبير، بخلق فضاءات بصرية جديدة، والارتقاء بوسائل التعبير، وتقديمها بطريقة معاصرة وبديلة عن كل المدارس الفنية القديمة والحديثة. فهو فن الحاضر والمستقبل، ويعدّ خطوة انقلابية للفن المعاصر، لكنه يواجه بعض العقبات والتحديات، تتمثل بعدم وجود جمهور مهيأ لتقبل هذا التشكيل، وهذا لايعني أننا لا نستطيع توسيع دائرة استقطاب جمهور الفن التشكيلي، من خلال التشجيع عليه والتعريف به، وبعد ذلك يصبح فناً قادراً على الاختراق، على أرضِ الواقع، وعبر شبكات التواصل ، فالفنان التقليدي يعمل ضمن مجال محدد، بينما في الفن التركيبي ، تبقى الفضاءات مفتوحة أمامه، ولديه حرية أكبر، ومساحات غير محدودة للتعبير.
ومعرض تولين ديمة قباني تجاوز طرق التعبير التقليدية كاللوحة والمنحوتة والمحفورة وماشابه ذلك، والأهم من ذلك أنها غامرت بإقامة معرض تركيبي يعتمد على الفكرة والثقافة والمتابعة، ويستعرض الماضي والحاضر في سورية، بمقاربات غير متكافئة ، ودون أن تقع في إطار التعبير التقريري والمباشر، بل تحمل المشاهدين في رحلة نابعة من ذاتها ومتفجرة من مخزون ثقافتها وإحساسها الساخط، مما يؤدي لا إلى إخراج الأشكال من وظيفتها التقليدية فحسب، بل إلى محوها أحياناً بسيل من التعابير، التي تفتح الباب على مختلف التأويلات القائمة، في خطوات تجاوز المظاهر الاستعراضية والصالونية، وإيجاد دلالات التعبير من خلال الانفتاح على معطيات الفنون المعاصرة،حيث ارتكزت على تجميع الحبال والخيوط القطنية، وغامرت بعرضها في فراغ الصالة بأشكال متنوعة وبطرق متشابكة ومغايرة للمألوف، للوصول إلى إيقاعات جديدة منفتحة على تحولات وانقلابات ثقافة فنون العصرفي مدن الفن الكبرى، إلا أنها تثير موجة من الاختلاف بينها وبين فناني الغرب، حين تستعيد ذاكرة مختلفة، مرتبطة باقتصاد سورية وتاريخها الحضاري، ولهذا تبدو متمردة وزاهدة ومأخوذة ببريق آخر، لتحقيق الانفلات من إطار اللوحة والمنحوتة ووسائل التعبير المألوفة والمعتادة.
لقد مارست عملها بحساسية مرتبطة بمبادئ فنية انقلابية، وانحازت بشكل واضح نحو الارتجال الفطري في بعثرة الأشكال والأدوات وعناصرها، بهواجس تلقائية وغرائزية ووجودية.
كل ذلك يقودنا في النهاية نحو متاهات العفوية والتلقائية والمغامرة، التي تثيرها الأشكال الموزعة دون منطق، والمعبرة عن لامنطقية الواقع السوريالي، الذي نعيش فصوله في عمق حياتنا اليومية.
ومن أجل ذلك قررت أن تخوض تجربة من هذا النوع، لإثارة الانتباه حيال مسألة انفتاح الفن المعاصر على مختلف التقنيات والأساليب والرؤى والأشكال، مع جنوح كامل نحو الغرابة والبساطة وتحويل الأشياء المهملة إلى أعمال فنية.
هذا هو جوهر تجربتها التشكيلية الفراغية التركيبية، فهي تتجاوز وسائل التعبير التقليدية، لكنها بالمقابل تعيد توضيح الفكرة التي يقوم عليها المعرض، فالفن التركيبي هو فن الفكرة بامتياز، فن إعادة اكتشاف مناطق وعوالم خافية، وطاقات كامنة في ثنايا الفكر، فهي عملية ولادة جديدة، خارجة عن إطار التراكيب القديمة، وأساليب التعبير المكانية والزمانية المألوفة.
وعلى هذا الأساس تصبح تجارب الفن التركيبي مفككة وبلا رابط منطقي، كالفن السوريالي، المعبر عن سوريالية الواقع. فلا تصورات مسبقة، ولاتراكيب مألوفة، ولا وحدات جاهزة. إننا نتجول في معرض تفككت فيه التراكيب، في عالم انفلت من حدود المنطق، أي في عالم غرائبي يفهم بواسطة العقل والثقافة البصرية العصرية، لكنه لايناظر مشهداً موجوداً في الواقع أو خارج الفكر والتصورات الخيالية.
قلنا في البداية إن تولين ديمة قباني تنظر في الأفق، متجاوزة زوايا النظر التقليدية، ولهذا أصبحت النتائج اللامرئية الموجودة في الافتراضات حقيقة، تساعد في فهم الحياة بكل جوانبها، وتساهم في حل الالتباسات والإشكاليات، وتعمل على تغيير الأذواق والحساسيات الجمالية ، وتكشف عما يجري وراء الظواهر، وخلف التحولات الإنسانية في الأزمنة القديمة والحديثة ، فالأمور تتغير في المنظور الوجودي، كما يقول “جان بول سارتر” في “الوجود والعدم”.