الملحق الثقافي- سلام الفاضل:
اهتمت مجلة العربي الكويتية بالأدب الصيني وخصصت دراسات مهمة للكثير من قضاياها، ومنها هذه الدراسة التي حملت عنوان الرمز في الشعر الصيني .. كتبها حسن أبو عسر ونشرت في العدد 762.
كثيرة تلك التدفقات المتتالية من النشوة الشعرية التي ستتلبسك وأنت تقرأ نصًا شعريًا لشاعرٍ صيني قديم أو معاصر، حتى مع تغير الكثير من مرتكزات الشعر الصيني مع مرور الزمن ومواكبته للتغيرات على مدى عمره الذي يتجاوز 3200 عام، إلا أن مبدأً واحدًا بقي ثابتًا حتى اللحظة، هذا المبدأ هو الإيجاز، فلا أشعار ملحمية هنا ولا قصائد مسرحية؛ فهذه الأشياء من مهام السارد لا الشاعر، فالشاعر فيلسوف يلخص رؤيته في أسطر قليلة، ورسام يظهر الصورة بأقل عدد من الضربات، لذا لا تستغرب أبدًا إذا وجدت القصائد الصينية محكومة بالإيجاز على الدوام.
لتحقيق هذه الثنائية المُركّبة (الشاعرية والإيجاز) لا يوجد مسلك أمام الشاعر إلا الرمز، وسواء كان هذا الرمز قادمًا من دهاليز الأساطير والتاريخ، أو من مناهل الواقع والجغرافيا، فلا يهم أبدًا إن قدم أيضًا من أبواب الاستعارات أو قفز من نوافذ الكنايات، وهل خلقه الشاعر أم سرقه، ما يهم هو ألا يكون مستهلكًا وأن يوفّر تلك اللذة التي يشعر بها القارئ أو السامع لحظة شعوره بأنه تمكن من اقتناص المعنى المختبئ وراء هذا الرمز، وهكذا ينساب الرمز ليغطي حتى التعريف الأدبي للشعر من وجهة النظر الصينية؛ فمهمة الشاعر هنا أن ينشئ حديقة مكسوة بالضباب ويضع الكثير من الطرائد في زوايا وممرات هذه الحديقة، ثم يطلب من الزائر صيد هذه الطرائد عبر هذا الضباب، وليس شاعرًا من يبني الحديقة وينشر الضباب ويضع الطرائد ثم يعطي القارئ خريطة تكشف السر وتحل المعضلة.
الأسبقية الرمزية للشعر الصيني
في حين يعتبر الكثير من النقاد ومؤرخي الأدب العالمي أن ديوان أزهار الشر وتحديدًا قصيدة المراسلات للشاعر الفرنسي شارل بودلير (1867-1821م)، يمثل الجين الأول الذي تناسلت منه قصائد الرمز في الشعر العالمي وأنجب المدرسة الرمزية ككل، إلا أن قراءة الشعر الصيني الذي سبق بودلير بقرون تجعلنا نحاكم هذا الكم من المصادر والمراجع والدراسات التي تجعل من بودلير مفجّر الرمزية الشعرية وعرّابها الأوحد؛ فالرمزية التراثية والرمزية الطبيعية وحتى الرمزية الخاصة سبق بها الشعراء الصينيون الشعراء الغربيين بودلير وإدغار آلان بو ومن بعدهما إليوت وغيرهم، هذا مقطع من قصيدة «أغنية لخريف منتصف الليل» للشاعر الصيني الشهير لي تاي بو المعروف بـ لي باي، والذي عاش في الفترة من (760-701 م):
تعلّقت قطعة من القمر بسقف المدينة
تتحرّك عشرات الآلاف من مشابك الغسيل
طعم الريح خشنًا وهي تعبر الممرات الجبلية
في قلبي
آه متى تكتمل هزيمة التتار
وأشتم للنهار ضحكته
في هذا المقطع الصغير يمكننا ملاحظة لي باي وهو يقول بأن للريح طعمًا خشنًا، وفي هذه الصورة يلغي المسافة الفاصلة بين اللمس والتذوق، فالكلاسيكي أن الطعم تذوق وأن الخشونة ملمس، وكذلك في قوله إنه اشتمّ ضحكة النهار، فهنا يلغي المسافة بين السمع والشم، في حين الكلاسيكية هي أن الضحكة تُسمع لا تُشم، وهو بهذا يحقق واحداً من أهم مبادئ المدرسة الرمزية التي تنسب لبودلير وهو وحدة الحواس!
وهذه الرمزية بمختلف أقسامها ليست حكرًا على لي باي، فقد تواجدت بشكل بدهي عند شعراء سبقوه وآخرين عاصروه وشعراء أتوا بعده، فهذا الشاعر وانغ وي الذي عاش في الفترة من (759-699م) في قصيدته «قلب واحد» يقول:
تلك التوتات الحمراء من الجنوب
أينعت على الغصون في الربيع
خذي إلى البيت حفنة من وفائها
رمزًا لحبنا
في هذا المقطع الشهير جدًا لوانغ وي تتجلى الرمزية الطبيعية في أوضح صورها، فقد التقط رمزًا من الطبيعة متمثلًا في ثمرة التوت البري وحمّله كمًا كبيرًا من الرموز التي يمكنها أن تتفجر في نفسية القارئ ومخيلته بشكل عنقودي وبالكثير من احتمالات التفسير التي ستكون كلها صحيحة، ولم يكتف بهذه الرمزية السطحية وإنما أوغل في الرمزية بقوله:
خذي إلى البيت حفنة من وفائها! فهو بهذا تجاوز ظاهر الشيء وأوغل في باطنه، فلم يرَ في الثمرة الحلوة شكلها ولا حتى طعمها وإنما رأى فيها الجانب المعنوي البحت (وفاءها)، وحتى مع انسيابية الرمز وتدرج غموضه فإنه تكثّف جدًا وصار عميقًا حينما خالف وانغ توقع القارئ أو المتلقي بأن طلب من حبيبته أن تقطف هذه الثمرة لتضعها أمامها كأيقونة، ورمزًا لحبهما، إلّا أنه بالغ في تجاهله للثمرة كمادة حسية طالبًا منها أن تحمل حفنة من المكنون المعنوي للرمز الذي أورده، وهو بهذا أيضًا يطوي المسافة بين الحسي والمعنوي، جاعلًا من الفضاء كله فضاءً بلا فواصل، وهذا الإلغاء هو واحد من متطلبات الرمزية الحديثة أيضًا.
وهناك الكثير من النصوص الشعرية الصينية التي تتجلى فيها بوضوح الرموز الطبيعية والأسطورية والدينية والتاريخية، والتي يمكن لأي قارئ بالصينية أن يجدها لدى أغلب الشعراء الصينيين.
العدد 1122 – 29-11-2022