الثورة-رشا سلوم :
تابعنا الدكتور جودت هوشيار منقبا وباحثا في تاريخ الأدب الروسي وقدم الكثير من الدراسات المهمة التي نشرتها وسائل الإعلام الثقافية.
اليوم نتابع جديده الذي صدر ضمن “المشروع الوطني للترجمة”وهو رواية (الحقيبة)، تأليف: سيرغي دوفلاتوف، ترجمة: د. جودت هوشيار.
تُلخص الرواية هجرة بطلها دوفلاتوف، نتيجة ظروف قاهرة ألمت به، ويحمل معه حقيبة قديمة مربوطة بحبل حتى لا تفتح. رغم نفي الكاتب وبعض الدارسين، إلا أنها سيرة ذاتية للروائي نفسه ليس لأن بطل الكاتب يحمل اسمه نفسه فحسب، بل لأن أحداثها جرت مع دوفلاتوف نفسه؛ تدور الرواية حول ثمانية أشياء موجودة في تلك الحقيبة المسافرة إلى المنفى في الولايات المتحدة الأمريكية؛ كما تصور عبثية الواقع بأسلوب بسيط وواضح في الإيجاز والإيقاع الفني.
محطات ..
يقول هوشيار في دراسة عن الكاتب
كان دوفلاتوف يحلم منذ صغره بأن يصبح كاتبا، في الوقت الذي كان زملاؤه التلاميذ يحلمون بأن يكونوا في المستقبل ملاحيين فضائيين مثل غاغارين أو أبطالا في الرياضة أو نجوما في السينما.
بعد تخرجه في الدراسة الثانوية التحق عام 1959 بكلية فقه اللغة في جامعة لينينغراد، وتعرف في هذه الكلية على زميلته آسيا بيكوروفسكايا والتي كانت محط إعجاب العديد من زملائه الذين أصبحوا في ما بعد كتابا وشعراء معروفين ومنهم الشاعر جوزيف برودسكي (الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1987) . توثقت علاقة دوفلاتوف بأسيا حيث تزوجا عام 1960 . وقد فصل دوفلاتوف من الكلية عام 1962 بسبب عدم مواظبته على الدوام، قتم تجنيده في الجيش حيث خدم بين عامي (1962-1965). كحارس معتقل. وكتب عن الحياة في المعتقل روايته الأولى “المنطقة”.
ويقول برودسكي : “عاد دوفلاتوف من الجيش ذاهل النظرة، وهو يحمل معه مخطوطات روايته الأولى، كما عاد تولستوي من حرب القرم”.
منذ أواخر الستينيات وحتى هجرته إلى أميركا في عام 1979، نُشر دوفلاتوف أعماله في مطبوعات سرية أو ما يسمى (سام ايزدات) أي(النشر الذاتي) في داخل البلاد، وكذلك في المجلات الادبية الروسية الصادرة في الدول الغربية، ما ادى إلى فصله من اتحاد الصحفيين السوفييت.
هذا في العالم، التي يمكن لشخص ملتبس الهوية، ويتحدث إحدى لغات أوروبا الشرقية ان يعيش فيها حياة طبيعية” .
دوفلاتوف في اميركا
في نيويورك انطلقت مسيرة دوفلاتوف الإبداعية ، حيث حقق نجاحاً سريعا. في البداية أصدر بالاشتراك مع بعض أصدقائه صحيفة “الأميركي الجديد” الأسبوعية، حيث تولى رئاسة تحريرها. وأصبحت الصحيفة الروسية الأولى في أميركا. ولكنها لم تدم طويلا بسبب قلة الخبرة في الشؤون المالية والإدارية ، وبذلك تفرغ لأعماله الأدبية، إضافة الى عمله في اذاعة “صوت أميركا” .
في غضون اثني عشر عاما من وصوله الأرض الأميركية إلى وفاته عام 1990، نشر 12 رواية ومجموعة قصصية في أميركا وأوروبا، بمعدل كتاب واحد كل عام، وكانت هذه الأعمال سرعان ما تترجم إلى الانكليزية والفرنسية والألمانية ..
طوّر دوفلاتوف أسلوبه الخاص المتفرد الذي يميزه على الفور عن أسلوب أي كاتب آخر، فهو بارع في نسج نصه السردي على نحو ساحر. يكتب عبارات قصيرة موحية، وليس لديه كلمات أو جمل عشوائية أو غير ضرورية. يقول في قصته المعنونة “جوارب كريب فنلندية:” التحقت بالجامعة، وبعد أسبوع واحد أحبتني فتاة رشيقة اسمها آسيا ، ترتدي أحذية مستوردة”، هذه العبارة قد لا تعني شيئاً للقارئ الذي لا يعرف الكثير عن الحياة اليومية في ظل النظام السوفييتي، ولكنها جملة تحمل دلالات كبيرة. فمن عاش ولو لفترة قصيرة في روسيا في تلك الحقبة يعرف أن الأحذية المستوردة، كانت لا تباع، إلا في محلات “بيريوزكا” المخصصة للأجانب، وكان يمكن الحصول عليها أيضاً في السوق السوداء باسعار مضاعفة، أي إن الفتاة تنتمي لعائلة ميسورة الحال، أو أنها على علاقة بأحد الأجانب، تفصيل صغير يرسم صورة كاملة للفتاة.
أعمال دوفلاتوف، مكتوبة بلغة بسيطة وواضحة، غالبًا ما تستخدم في دراسة اللغة الروسية للأجانب، ومنها مجموعته القصصية المعنونة “أمرأة أجنبية” التي دخلت إلى المقرر الدراسي في تخصص اللغة الروسية في الجامعات الأميركية.
من يقرأ قصص سيرغي دوفلاتوف، عن عبثية الحياة، لا بد أن يضحك أو يحزن أو يسخط، إلا إذا كان أصمّ أو أعمى .. وربما خيل إليه أنها قصص واقعية من صميم الحياة وخاصة أن دوفلاتوف باسمه الصريح هو البطل في معظم تلك القصص. شخصياته حملت أحياناً أسماء أصدقاء ومعارف حقيقيين، وكذلك أسماء من جعل الحياة جحيما لا يطاق بالنسبة إليه ولكن الأحداث المتعلقة بهم التي يصفها خيالية إلى حد بعيد. فالواقع لا يشكل عند دوفلاتوف سوى نقطة انطلاق لإعادة صياغة حقائق الحياة الواقعية وتحويلها إلى عمل فني
شخصيات دوفلاتوف ليست مثل تلك التي كانت في الأدب السوفييتي – بل أناس أحياء بنقاط ضعفهم وفضائلهم الخاصة في الحياة. ولا يقسمهم الكاتب إلى أبطال سلبيين وايجابين . وعلاوة على ذلك يكتب بدفء خاص عن المهمشين.
قد تجد بين أبطاله أناسا كاذبين، أو متبجحين، أو عديمي الموهبة. والراوي نفسه ليس ملاكا، بل إنسانا يعاني من الواقع محتفظا بكرامته الشخصية.
عودة دوفلاتوف
وفاة دوفلاتوف
قصة دراماتيكية مؤلمة. فقد كان في ضيافة صديقة روسية، حين شعر بألم حاد في صدره، استدعت الصديقة سيارة إسعاف ، ولكن المستشفى القريب رفض استقبال المريض، لأنه لا يملك بوليصة تأمين صحي. وبحث سائق سيارة الإسعاف طويلاً عن مستشفى آخر، يقبل مريضا على شفا الموت من دون بوليصة تأمين. ولكن دوفلاتوف لفظ أنفاسه الأخيرة داخل سيارة الإسعاف قبل الوصول إلى المستشفى المنشود .
حققت أعمال دوفلاتوف عند نشرها في روسيا بعد وفاته مباشرة نجاحا مذهلا وأصبح الكاتب الأشهر والأكثر شعبية بين أبناء جيله. وما تزال أعماله الروائية والقصصية تصدر بأعداد هائلة منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا .