حملتني النقاشات الطويلة الممتدة على مدى أكثر من عامين بشأن مناهج السنة التحضيرية في الجامعات، حملتني للخوض في معنى الاختصاص وجوهره والغاية منه والخلفيات التاريخية للتخصص، وبالتالي أساس فكرة التخصص في المعرفة والعلوم، سواء كانت في العلوم الأساسية أو العلوم التطبيقية أو في مجالات الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية.
فقد ارتفعت النداءات من جانب الطلاب وأهاليهم للمطالبة بتخفيض حجم المواد المقررة في السنة التحضيرية باعتبارها غير ذات فائدة بالنسبة لهؤلاء الطلاب المتفوقين في اختصاصاتهم مستقبلًا، وزاد فوق ذلك أن تلك الدعوة لقيت قبولاً واستحساناً ودعماً من جانب من بعض أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات، وخاصة ممن يتولون التدريس في هذه السنة الحلم والأمل والغاية بالنسبة للطلاب المتفوقين، الأمر الذي دفع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ومجلس التعليم العالي للنزول عند هذه الرغبة وإجراء ما يسمى تقييمات لمحتوى المادة العلمية والنظرية في مقررات التحضيرية لمعرفة مدى الفائدة التي يجنيها الطالب المجتهد الذي حصل على أعلى الدرجات في مجموع الثانوية العامة، من تلك المعارف والمعلومات التي يعتبرونها حشواً لا فائدة ترتجى منها.
فماذا يفيد طالب الطب البشري أن يعرف تاريخ الطب عند أجداده العرب ويقف عند الأطباء الأقدمين ممن ارتقوا بمهنة الطب درجة درجة وأي العلوم كانوا يعرفون قبل أن ينتقل الأمر إلى القارة الأوروبية وتالياً إلى الولايات المتحدة الأميركية والعالم !؟
وماذا يفيد طالب الصيدلة وطب الأسنان معرفة المبادىء الأساسية في علم الحيوان وعلم الجنين وعلم الخلية الحيوانية والنباتية ، إن كان سيعمل لاحقاً في ميدان ضيق، يسمونه الاختصاص!؟
هذه بعض من تساؤلات تقع على ردود فعل مختلفة ومتباينة، لا تجد الوزارة ومجالسها العلمية طريقا مقنعاً لإقرارها لوقوعها تحت تأثير الضغوط والأهواء الشخصية لمن يعتقد أن السرعة في حصول ولده على الشهادة الطبية ستمنحه الفرصة لتبوء مكانة متقدمة في سباق العمل والوظيفة .
والأمر المؤسف نجده في انصياع الأساتذة وواضعي المناهج لهذه الضغوطات ذات الأبعاد الشخصية في ظل تراجع جودة التعليم ولجوء طلاب التحضيريات لاتباع دورات تقوية خاصة غالباً ما يقوم بها نفس الأساتذة القائمين على تدريس موادهم مقابل رسوم كبيرة تكون نتيجتها فرص نجاح مؤكدة للذين يتبعون تلك الدورات في حالة لا تحتاج شرحاً ولا تفصيلاً.
أعود لفكرة الاختصاص الذي قد تعني عند البعض أن يقف طبيب الأسنان عند حدود ما نرى في العيادة دون أن يكون لديه المعارف الأساسية لطبيعة وفيزيولوجيا الجسم البشري التي تجعل آلية وطريقة العلاج تختلف ما بين شخص وآخر وحتى ما بين منطقة وأخرى، بمعنى أن الاختصاص الدقيق لا يعني أبداً أن لا يكون ذلك المختص عارفاً بالعلم الأساسي والأوسع، فالمختص في الجراحة العصبية، لا شك أن لديه المعارف الطبية الأساسية كلها، لكنه قام بتركيز اهتمامه في هذا المضمار دون أن يكون رافضاً لغيره من الاختصاصات، فتكامل المعارف والعلوم يعطي العلوم غنى ويدفعها للتقدم، وهذا يرتبط بكم وحجم ونوعية المعلومات والعلوم الأساسية التي ينهلها الطالب في مراحل تعليمه الأولية لتبقى تشكل قاعدة علمية على المستوى النظري والتاريخي وحتى الأدبي بالنسبة لأي اختصاص، وما ذرائع ضخامة حجم المنهاج إلا تساهل وضرب للعملية التعليمية في وقت يجب أن يتم تركيز اهتمامنا على تحسين جودة التعليم لمواجهة تحديات المستقبل في العلوم والمعارف.