وجه فرنسا العنصري

الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:

وعلى الرغم من ذلك، لم يسقط القرار عن فرنسا تهمتها بالعنصرية، القرار القاضي بضم الفنانة الأميركية السوداء جوزفين بيكر، العام الماضي، إلى محفل العظماء في فرنسا، الـ «بانتيون»، وقد وصفته المعلقة الفرنسية حول مسائل العرق روخايا ديالو، بقولها:»الشمولية يوتوبيا وأسطورة ترويها الجمهورية الفرنسية عن نفسها ولا تتوافق مع أي واقع حاضرٍ أو ماضٍ، بالنسبة إلى أبناء البشرة السمراء، لطالما كانت هذه الجمهورية فضاء لعدم المساواة»، بينما فرانسواز فرجيس، أستاذة العلوم السياسية في قضايا الثقافة والعرق والاستعمار، تعتبر أن هذه الحقائق لا تعني أي شيء، وأن «اللفتات الرمزية» مثل استقبال بيكر في الـ»بانتيون» لا تكفي لوضع حد للتمييز العرقي الذي «ما زال إلى حد اليوم يتحكم بحياة الناس في بلدنا، وفي حوار أجرته مجلة لو نوفيل اوبزرفاتور أشار الكاتب الأميركي جيمس بالدوين الذي لجأ هو الآخر إلى فرنسا إلى جانب بيكر هرباً من العنصرية المتفشية في الولايات المتحدة: «أنا أميركي أسود لايمثل أي تهديد للهوية الفرنسية، عملياً، كأنني غير موجود، لكن ستكون لي قصة مختلفة تماماً، لو كنت سنغالياً، وأغنية شديدة المرارة، لو كنت جزائرياً».
في فيلم (دوماس الآخر) لم يكن يخطر في بال المخرج صافي بينو، أن فيلمه هذا سوف يثير هذه الموجة من الانتفادات والاستنكارات بسبب إسناده دور الكاتب الشهير الكسندر دوماس، الخلاسي البشرة والأجعد الشعر، حسب وصف الكاتب صاحب لنفسه في مذكراته (أنا عبد ذو شعر أجعد) وابن الجنرال دوماس، بطل الحروب الثورية الفرنسية، الذي طرده نابليون من الجيش بسبب لون بشرته، إلى الممثل جيرالد ديبارديو، والتي جاءت في الوقت الذي يستعر فيه الجدل في فرنسا حول هويتها الوطنية، ومسألة التنوع العرقي والثقافي فيها، بحيث أبرز الفيلم بوضوح المصاعب التي تواجهها فرنسا في سياق تلك القضية،
ولمقاربة الشبه بين الممثل والدور اكتفى المخرج بإجراء بعض التغييرات البسيطة على شكل الممثل، مثل وضع شعر مستعار أجعد على رأسه، أو طبقة سميكة من مساحيق الاسمرار على وجهه، ويحكي الفيلم عن العلاقة التي كانت قائمة بين الكاتب دوماس وبين أوغست ماكيه، من يدعونه (عبده الأدبي) أي Neger وفي بريطانيا يطلقون عليه اسم (الكاتب الشبح)، وتلك مسألة لوحدها أثارت انتقاد كتاب السيرة الذاتية للكاتب دوماس.
ودافع منتجا الفيلم على أن موضوع الفيلم لا يتناول مسألة العبيد السمر وإنما مكرس لمسألة العبودية الأدبية.
ولكن بالمقابل هل يمكننا يوماً ما أن نغير لون ممثل خلاسي اللون ليقوم بدور شخصية بيضاء؟ مثلاً، أن يسند دور مارغريت دوراس للممثلة السمراء ايسا مايغا أو يسند دور الكاتب اميل زولا للممثل الأسود جيمي جان لوي؟ أو أن يقوم ممثل بدور الكاتبة جورج ساند؟ أو هل يمكن بعد مرور 150 عاماً أن يقوم ممثل أبيض بدور باراك أوباما ويكتفي بوضع شعر مجعد مستعار على رأسه؟ ذلك هو السؤال الذي من خلاله صوب مهاجموا الفيلم سلاحهم على المدافعين عن الحرية الفنية التي تحددها قدرة الممثل على أداء هذا الدور السينمائي، ونقطة الضعف الكبرى التي انفتحت فيها الثغرة للهجوم، هي لماذا وحينما أراد المخرج أن يقارب بالشبه الشكلي بين شخصية الممثل وبين الشخصية التي يقوم بدورها لم يذهب إلى آخر المطاف ويختار ممثلاً ملوناً وإذا ما عدنا إلى التقاليد الشكسبيرية (حيث يلعب الممثل كل الأدوار بغض النظر عن لون بشرته) نجد أن فرنسا تشكل حالة استثنائية عن الدول الأنغلوسكسونية، ففي مسرحية (هاملت) على سبيل المثال، أسند المخرج بيتر بروك دور أمير الدنمارك إلى ممثل أسود، وهذا الاختيار لم يشكل أي صدمة لدى الجمهور البريطاني، الذي رأى في الأمر شيئاً عادياً، ولكن، عندما عُرضت المسرحية في فرنسا، كان الجمهور يسأل المخرج بشيء من الاستغراب والاستهجان (ألا ترى أن في الأمر ثمة شيئاً مضحكاً، وهو أن يلعب ممثل أسود دور أمير دانماركي !) ويروي الممثل الكاميروني اميل ابوسولومبو أن أحد المخرجين قال له يوماً (أتمنى جداً أن تلعب يوماً ما دور دون جوان، ولكن الناس لن تستوعب ذلك)، علاوة على أنه وفي غضون السنوات المنصرمة اندفعت السينما العالمية في البعيد في البحث في تكريس التطابق في الشبه بين الممثل والشخصية التي سيقوم بتجسيدها على الشاشة، ومن وجهة نظر الكاتبة سيلفي شالاي، مؤلفة العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية لا تتركز القضية على شخصية الممثل ديبارديو واختياره للدور، وإنما لأن السينما هي في نهاية الأمر عبارة عن تجسيد وتشخيص، ولا يمكن لأحد أن يطرح هكذا إنتاج بهذا الحجم دون أن يطرح هذه المسألة وهي الحفاظ على حقائق تاريخية لا يمكن تغييبها عن الشاشة، وأن السينما الفرنسية لا زالت متراجعة خطوات كبيرة إلى الوراء عن مثيلتها الأنغلو -سكسونية- في الاعتماد على المشاهير من النجوم السود، ولو كان هذا الفيلم قد أنتج في الولايات المتحدة كان سيلقى صيحة استنكار واسعة يصعب بسببها عرضه في الصالات، الأمر الذي يكشف عن خلل صريح في الآلية المعمول فيها لتقديم الدعم المادي للإنتاج السينمائي الفرنسي.
وفي حين ترد أسماء ممثلين سود في قائمة الممثلين الأعلى أجراً في هوليوود، يعمل المنتجون الفرنسيون إلى تلوين ديبارديو بلون ضارب إلى السمرة للقيام بدور كاتب أسود! ونضيف إلى ذلك صعوبة ايجاد التمويل لفيلم فرنسي يعتمد في بطولته على ممثل أسمر.
وهنا لا بد وأن تستحضرنا جملة قالها يوماً ما المخرج الفرنسي جان رينوار:» دعوا أبواب البلاتوهان مشرعة، لأننا لا نعلم من القادم الجديد الذي سوف يدخلها».
هذا من جانب التعمية على لون الكاتب، والتي هي ، دون شك ، أحد الوسائل المجدية لتهميشها والتنكر لحقيقة تاريخية، تأتي، ربما – كما فسره بعض الغاضبين من الفيلم – من أجل الإيحاء لفكرة أن السود هم ( مهاجرون حديثو العهد على فرنسا ) . والحقيقة تقول :إنهم فرنسيون منذ عقود قديمة ، وخرج دوماس من صفوفهم . وهذا يشكل جزءاً كبيراً من حياته ، كما أعماله ، وهي جزء هام من التراث الجمعي والإرث الوطني ، وتغييب هذا الجزء ينطوي على عدم إحساس بالمسؤولية الوطنية . لأن التمييز العنصري يبدأ دوماً من خلال إخفاء جزء من الآخر أو إنكاره ضمن سياق الحكاية الوطنية .
كذلك أفضى الفيلم من ناحية أخرى إلى عدم التلميح إلى الآلام التي كابدها الكسندر دوماس بسبب العنصرية التي كانت سائدة . تلك الآلام تحتل حيزاً كبيراً في مذكراته . ويذكر فيها أنه حينما كان يسأله أي شخص حين يلقاه ( في الواقع ، يا سيدي العزيز من المفروض أن تكون خبيراً بالعبيد؟) ويرد دوماس ( بالتأكيد ، كان والدي خلاسي وجدي كان عبد وجد جدي كان قرد . أترى يا سيدي بدأنا نحن من حيث انتيهتم أنتم ) ، أو من مثل أنه وحين كان يخرج من صالون ، كانوا يفتحون النوافذ لتخرج الرائحة العفنة للعبيد .
من جهة أخرى استخدم الفيلم مصطلح ( العبد الأدبي ) وهو المصطلح الذي تنفرد فرنسا في استخدامه تقريباً ، ويعني بالعبد هنا الشخص الذي كان يتعاون مع الكاتب لإنجاز عمله الأدبي ، وهو شائع جداً في الأوساط الأدبية ، ومنها مثلاً أن الكاتبة المعروفة جورج ساند كانت تكتب لديكارت . وهؤلاء كانوا يعملون بالتعاون مع الكاتب في جزء أو في كلّ الأبحاث المتعلقة بأعماله وخاصة التاريخية ، ويقومون ، في حال اقتضت الحاجة ، بدور المصححين لما يكتبه الكاتب . ولكن في الفيلم ، يتحول دوماس إلى مجرد محتال ، إلى مجرد مستغل خسيس لموهبة أحد مساعديه وهو اوغست ماكيه . وفي هذا تهشيم لصورة دوماس الأدبية العظيمة ، الصورة التي يجتمع حولها الجميع دون تمييز في العرق واللون . وإن كان يسعى الفيلم إلى الاعتراف بموهبة ماكيه وإعادة الاعتبار له ، ولدوره الكبير في ولادة أدب دوماس، لماذا يذهب إلى درجة نكران عبقرية هذا الأخير؟ وهذا الإنكار للأصول الزنجية لدوماس وراء اختيار ديبارديو لتجسيد شخصيته. هنا في الفيلم ليس دوماس هو العبد ، بل ماكيه ، ودوماس هو ماكيه ، وبالتالي التشكيك بمقدرته على تأليف هذا الإرث الأدبي الرائع .
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه ضمن معمعة هذا السجال هو : ألا تشكل حياة كاتب فرنسي ذاق مرارة العنصرية ، ويعود في أصله إلى طبقة العبيد ، رواية دسمة تستهوي السينما الفرنسية لاقتباسها ؟
العدد 1124 – 13-12-2022

آخر الأخبار
دخل ونفقات الأسرة بمسح وطني شامل  حركة نشطة يشهدها مركز حدود نصيب زراعة الموز في طرطوس بين التحديات ومنافسة المستورد... فهل تستمر؟ النحاس لـ"الثورة": الهوية البصرية تعكس تطلعات السوريين برسم وطن الحرية  الجفاف والاحتلال الإسرائيلي يهددان الزراعة في جنوب سوريا أطفال مشردون ومدمنون وحوامل.. ظواهر صادمة في الشارع تهدّد أطفال سوريا صيانة عدد من آبار المياه بالقنيطرة  تركيا تشارك في إخماد حرائق ريف اللاذقية بطائرات وآليات   حفريات خطرة في مداخل سوق هال طفس  عون ينفي عبور مجموعات مسلّحة من سوريا ويؤكد التنسيق مع دمشق  طلاب التاسع يخوضون امتحان اللغة الفرنسية دون تعقيد أو غموض  إدلب على خارطة السياحة مجدداً.. تاريخ عريق وطبيعة تأسر الأنظار سلل غذائية للأسر العائدة والأكثر حاجة في حلب  سوريا تفتح أبوابها للاستثمار.. انطلاقة اقتصادية جديدة بدفع عربي ودولي  قوات الأمن والدفاع المدني بوجٍه نيران الغابات في قسطل معاف  قضية دولية تلاحق المخلوع بشار الأسد.. النيابة الفرنسية تطالب بتثبيت مذكرة توقيفه  بعد حسم خيارها نحو تعزيز دوره ... هل سيشهد الإنتاج المحلي ثورة حقيقية ..؟  صرف الرواتب الصيفية شهرياً وزيادات مالية تشمل المعلمين في حلب  استجابة لما نشرته"الثورة "  كهرباء سلمية تزور الرهجان  نهج استباقي.. اتجاه كلي نحو  الإنتاج وابتعاد كلي عن الاقتراض الخارجي