أسعد اللحظات “هي تلك اللحظات التي لا أفكر خلالها بشيء، ولا أريد شيئاً، ولا أحلم بشيء، أكون ضائعاً في خدرٍ”..
ثمة تقارب ما بين حالة (فرناندو بيسوا) السابقة وما تحدّثت عنه الفنانة (جوانا بوركوفسكا) موضّحةً معنى “اللاشيء” حسب فهمها وكيف تقوم بتطبيقه عملياً أثناء خلقها لإحدى لوحاتها:
“أجلس أمام لوحة فارغة بكل بساطة ثم أنظر إلى اللوحة وأنا مسترخية ومتيقظة في نفس الوقت.. أتنفس وأغمض عيني ثم لا أفعل أي شيء، وبعد بضع دقائق بالعادة أستطيع الإحساس باهتزازٍ خفيف في قلبي… ثم يتحوّل عقلي ويسمو، فأصلُ الى إحساسٍ بوضوحٍ عظيم، حيث كل شيء حادٍ وواضح.. أجد نفسي في فضاء مضيء لانهائي. أشعر بخفّة وكأنني حرّرت جسدي.. هذه هي مساحتي من اللاشيء”..
مساحتها من اللاشيء فاضت بالكثير مما يعبّئ هذا “اللاشيء” ويملؤه.. فيجعله ذا معنى..
اشتملت تحوّل عقلها وسموّه.. واحتوت وضوحاً عظيماً.. خفّة وتحرّراً جسدياً..
فهل كانت تصف “اللاشيء” أم تحدّد معنى “الامتلاء”..؟
وكأننا لا نصل إلى فيض (الامتلاء) إلا بالمرور بالتفريغ/الفراغ/أو اللاشيء.
وفق صيغ الفهم الفني يتمدّد هذا (اللاشيء) ليغدو (كل شيء)..
فما الوسيلة التي تمنحنا عيش ذاك “اللاشيء” خطوةً حاسمة وصولاً إلى الامتلاء..؟
بمعنى تحويله لشيء.. وربما لأجمل شيء يعادل كل شيء.
بالنسبة لتلك الفنانة تحدّثت عن حاجتها لتتزوّد بطاقة تتعلق بكل ما هو عقلي وعاطفي، ويبدو أن طاقتها تلك تشهد عملية تحوّل دائمة..
وكلنا يحتاج ذاك النوع من الطاقة مهما اختلف مصدرها ونوعها، ومهما تباينت سبل تفريغها أو تصريفها.
يومياً.. وحياتياً.. مساحتنا من “اللاشيء” تتمثل بعملية تناوب ما بين تفريغ وامتلاء.
نحتاج إلى تفريغ كل البشاعات والسلبيات والشوائب اليومية.. وإعادة تعبئة خزّانات أرواحنا بالصافي والنقي من الحبّ..
ويبدو أننا في حالة عوز إلى تلك الشجاعة التي تجعل أيّاً منا يبحث عن (مساحته/مساحتي من اللاشيء)..
أن يسمح ل(اللاشيء) غرساً داخله واستقبالاً لكل مساحات (الامتلاء).. حياةً.. جمالاً.. وحبّاً..
من يجرؤ على إعلان مدى اتساع (مساحته من اللاشيء).. هو الأكثر شجاعةً وثقةً.. لأنه يملك يقين قدرته على ملء “فراغات اللاشيء” بكل جماليات الأشياء الممكنة.