هفاف ميهوب
أحبّوها.. لأنها القصيدة التي وجدوها تحيا، رغم الموتِ الذي فيها وحولها.. عانقوها وكفكفوا ما أمكن من نزيفها، عبر كلماتهم الصارخة باسمها، والمتضامنة معها..
إنها سورية.. وطنُ الحبّ والاحتواء، مثلما الجرح عميق الكبرياء.. الوطن الذي سكنتهم تفاصيله، فأبوا إلا التماهي معه، في لحظات فرحه مثلما حزنه وأنينه.
هم شعراءً عرب.. إنسانيون ومبدعون.. تضامنوا مع سوريتنا في حربها ضد الإرهاب، وأدانوا ما وقع عليها من عقوبات خانقة وجائرة.. طالبوا بفكّ الحصار عنها، وكتبوها بدمِ قوافيهم، عندما رأوا حزنها النازف، إثر كارثة الزلزال المدمّرة.
من هؤلاء الشعّراء، الكاتب الأكاديمي الفلسطيني «عبد الله عيسى».. الشاعر الذي لا زال، ومُذ تنفّس هواء دمشق التي ولد في إحدى ضواحيها.. لا زال يُنشدها ويتألّم لألمها، ولا سيما بعد نكبتها، التي دفعته للقول شعراً يواسيها:
«نتفقّدُ الأحجارَ في كَلماتِنا»
سوريا.. يا سيّدة الحلمِ البريّ،
وأختَ الشجر الأولى!
يا كاظمةَ الغيظِ،
وصاحبةَ الألمِ السّريّ
وحارسةَ الأبديّةِ في يدكِ الطولى !
تتألّمين لأجلنا
نحن العصاةُ، وقاطعو الأرحامِ،
من نبشوا قبورَ الأنبياء ليقتفوا آثارهمْ،
الخائبون بما شهدنا
أنّ هذا الموتَ يشبه أنْ نطلّ عليكِ مِن شرُفاتنا، فيما يجزّ المعتدون ضفيرتَيكِ ويرقصونَ على ظلالكِ. كلّنا موتى ..
عجزنا أن نقولَ لكِ الّذي قالته نرجسةٌ لمرآةٍ: نحبّكِ مثلما كنّا، فلا يغتاظَ منّا مُبغِضُوكِ..
وتستضيفينَ الزلازلَ في سريركِ،
خوفَ أنْ تأتي إلينا في أحاديثِ الرواةِ
وناقلي الأخبارِ .
موتى كلّنا
نتفقّدُ الأحجارَ في كلماتنا،
فتعضّنا أسنانُنا تحتَ الركامِ .
هناكَ طفلٌ يقتفي أثر الحياةِ، ولا يزالُ،
كما شهدنا،
حبلُ سرّته واصلَ الرحمِ المقدّس،
في مشيمة أمّهِ.
وعلى حوافِ اليأس أرواحٌ تقابلُ ربّها
جثثٌ تقلبّها أيادي الموتِ تنتظرُ الإغاثةَ،
في جوارِ الدميةِ البيضاء أمّ حاملٌ بردتْ أصابعُها على شَعرِ ابنتيها.
كلّنا موتى فَيَا لِبَلِيّتِي!..
إنّي تأخّرتُ عن الوصولِ إلى جنازتيَ الأخيرةِ ، بينما لعنَ المعزّونَ انتظاري،
وارتضوني بينهمْ
حتّى.. أعدّ على أصابعكِ الضحايا كلّهمْ.
يا للبلاءِ، بلاءِ سوريا!
«وبعضُ الدُّموعِ تُؤلِّبُ زلزالَهَا»
من هؤلاء الشعراء أيضاً، الشاعرة والناقدة العراقية «جوانا إحسان أبلحد» التي لم يختلج أمام هولِ المأساة الإنسانية التي خلفها الزلزال في سوريتنا، وجدانها وإنسانيّتها فحسب، بل واختلجت قصيدتها، وكل مفردة دوّنت مشاهداتها:
أُصدِقُكَ الدَّمْعَ،
وبعضُ الدُّموعِ تُرتّبُ سِلْسالها
انكسَحَ الطاعنُ برمحهِ، وظلَّتْ الأرضُ مطعونة
وظلَّ جنبُ البشريَّة ينزُّ دماً وَ ماء
لأنَّ ابنَ الإنسان بقيَ مطعوناً
مُعلَّقاً على الصليبِ – حتَّى البارحة أُصدِقُكَ الدَّمْعَ، وبعضُ الدُّموعِ تبيعُ خِلْخالها..
انتفى السَّامُ بخنجرِهِ، وظلَّتْ الأرضُ مسمومة
وظلَّ حَلْقُ البشريَّة يمجُّ قيحاً وَ ماء
لأنَّ ابنَ الإنسان بقيَ مسموماً
متروكاً في العَرَاءِ – حتَّى البارحة..
أُصدِقُكَ الدَّمْعَ،
وبعضُ الدُّموعِ تُؤلِّبُ زلزالَهَا..
اندثرَ الكاسرُ بأنيابهِ، وظلَّتْ الأرضُ مكسورة
وظلَّ قلبُ البشريَّة يقذفُ شراراً وَ ماء
لأنَّ ابنَ الإنسان بقيَ مكسوراً
مدفوناً تحتَ الأنقاضِ – حتَّى البارحة
«فبكتْ على وقعِ اللّظى هزّاتُها»
كُثر من الشعراء العرب تضامنوا مع سوريتنا في محنتها هذه، كُثر أطلقوا صرخة القصيدة، علّها تعلو وتعلو، فتغيّب بصداها صرخة الألم التي أطلقها من كانوا تحت الأنقاض.. أطلقوا أصواتهم على المنابر والدفاتر وصفحات التواصل، حيث يسمع الفضاء الشاسع بأكمله، ما أرادت الشاعرة التونسية «جهاد المثناني» أن تسمعه إياه أيضاً، وعندما قالت:
جوريّةُ الخدّينِ تلكَ صفاتُـها
شَهبـاءُ جادتْ بِالهَوى نَظراتها
شَهباءُ ألقَت في البياضِ محبّةٌ
بينَ الضّلوعِ تَبرعمتْ آهاتُها
وتـورّدتْ يَسـقِي المدامعَ حزنُها
وتـأوّهت فَتَزاحمتْ أنّاتها
شـآمُ يـا وجعَ القصائِدِ إنكِ
بِـدمِ القـوافي دَمـعُها ودَواتُها
يا حكمةَ الأشـواقِ ذاتَ عروبةٍ
شـوقي إلى الأوْطَان.. طالَ سُباتها
إنَّا الشّـآم وإنّنا فِي حـبِّـها
إنْ عَاندتنا الـّريحُ نحـنُ حُـداتُها
أنتِ المآذنُ يا شآمُ تُـعانقُ
حُـزنَ الكَنـائسِ أنتِ .. أنتِ صلاتُها
قَد يسـتلذُّ الموتُ وَأدَ بياضِها
لَكِنْ بجُـرحِ الياسمينِ حَـياتُـها
ذي الأرضُ مَادَت والفؤادُ مُتيّمٌ
فبكتْ على وقعِ اللّظى هـزّاتُها
قَد يولـدُ الأملُ المُعتّق بالدِّما
تحت الحُطامِ وفي الحُطامِ نجاتُها
ذي الشامُ تَأبى الانكسارَ وإنّنا
عندَ انكسارِ الماءِ نحن حمَاتُـها
سـتجيءُ كَالفينيقِ صوبَ غنائها
للأقحُوانِ تهـزّنـا نَـايَـاتُـها
