الثورة _ هفاف ميهوب:
وقعها يُدمي القلوب، ويسارع نبضَ الترقّب لدى المعافى منها.. تفاصيلها توقد الإحساس بالألم، وبالآهِ التي تتوالى مع توالي صورها.. الصور التي لا بدّ أن تصيب ناظرها بهلعٍ لا يستكين، فكيف وإن كان هذا الناظر ممن أبقتهم المعجزة على قيدٍ حياة، سيكون فيها أبداً «من الناجين»؟..
كيف وإن كان هذا الناظر، من غدر به الليل فلم يكن وسادةَ وسكينةَ حلمه؟.. ومن داهمه الفجر بيقظةٍ غيّبت أمانه وأمنه؟..
إنها قصص السوريين المنكوبين، ضحايا زلزالٍ أضاف الويل إلى واقعهم الذي بات معرّفاً بالموت والدمار، وعلى مدى سنوات الحرب التي تلتها سنوات الوباء والعزلة والحصار.
يعجز الخيال عن وصف قساوة هذه السنوات، وتعجز الأساطير وأبرع الكلمات.. يعجز كلّ شيء إلا إرادتهم، تثبتُ للحياة دوماً، بأنهم وبعد كلّ موتٍ يرتدّون إليها معلنين قيامتهم..
هاهم يعلنونها فتصيرُ قصصاً وحكايا مُلهمة، ومنها انتقينا ما رواه الناجون عنهم، وعن اللحظات النازفة والمؤلمة:
«أن نحيا كلّنا أو نموت كلّنا»
أخوات ثلاث يقمن مع أسرتهن في إحدى قرى َاللاذقية، خرجن من تحت الأنقاض، بعد حصارٍ دام ١٧ ساعة، ليروين حكايتهن مع الكارثة التي أيقظت صباحهن على رعبٍ، لم يشهدن مثله إلا في أفلام الخيال..
تبدأ «جولي الجهني» بالكلام: لا أتذكر إلا أننا فقدنا وعينا، ولم نعد نشعر بشيء، وعندما عاد إلينا الوعي، وجدنا بأننا ما زلنا على قيد الحياة. بدأنا نبحث عن والدينا للاطمئنان عليهما، فوجدنا بأننا معهما وجميعنا على الأرض، مجتمعين ضمن مساحة صغيرة، ومتراكمون فوق بعضنا البعض.. كانت إصاباتنا بسيطة بالنسبة لوالدينا اللذين كانا أكثر تضرّراً..
تُكمل شقيقتها «سيدرا الجهني»: لم نشعر بجوعٍ أو عطش خلال فترة وجودنا تحت الركام.. لم نشعر إلا بأن هناك ضوء لا يغادرنا، وعندما كنّا نشعر بالاختناق وضيق في التنفس، تفاجئنا نسمات من الهواء، وكان والدي أكثر من يشعر بها، وأكثر من يحتاجها، فهو مريض وفي فترة نقاهة، إثر عملياتٍ جراحية كان قد أجراها.. كنا ندعو أن نحيا كلّنا، أو نموت كلّنا..
تختم الشقيقة الثالثة «جودي الجهني»: عندما تمّ إنقاذنا وخرجنا من تحت الأنقاض، لم نصدق بأننا نجونا، ولاسيما عندما رأينا بأن كلّ من حولنا، فقد حياته..
«لازال ينام تحت الأنقاض»
أبٌ من مدينة «حلب» يروي تفاصيل ذاك الفجر المزلزل، فيقول مفجوعاً ومتألماً، وبطريقةٍ يبدو فيها وقد فقد تماسكه، بعد أن تملّكه ألم الفجيعة التي حلّت، فخلفت الخوف والموت والدمار.
في فجر يوم الكارثة، سارعت لأطمئن على عائلتي التي كانت تنام عند أقارب لنا.. فقدت أقربائي وأسرتي.. ابني الذي يبلغ من العمر 13 عاماً، كان نائماً في سريره، وعندما وجدناه تحت الأنقاض، بدا وكأنه يكمل نومه ولا يريد أن يستيقظ أبداً..
بعد انتشاله من تحت الأنقاض، قمت بدفنه ولكن، بقيت زوجتي وابني الثاني تحت الركام، ولم أعرف عنهما شيئاً… لا أمل لي بالعثور عليهما بين الأحياء، ففرق الإنقاذ تبحث منذ أربعة أيام، ولا شيء غير الأشلاء التي تجعلني على يقين، بأنني فقدت كلّ عائلتي.
«أمنيتي أن تعود أسرتي»
«سالي حسام زلف».. الشابة التي تبلغ من العمر 16 عاماً، كانت الناجية الوحيدة من الزلزال الذي دمّر منزلها في مدينة جبلة «حي الرميلة».. المنزل المؤلف من طابقين، والذي بقيت تحت أنقاضه ٣٦ ساعة، وحيدة ترقب بدموعِ الويل، أسرتها التي أدركت وهي ترى الدمار حولها، بأنها لن تصحو من نومها أبد العمر.
لم تؤلمها الرضوض التي نالت من جسدها، ولاحتى إصابة قدمها، بل فقدانها لوالدها ووالدتها وشقيقها، لتنتقل بعدها للإقامة في بيت جدّها، ولتقول وهي تمسح دموع عينيها بكلتا يديها:
أنام في بيت جدي، فأنا أخاف من البنايات، ولن أدخلها بعد اليوم أو أسكنها أبدا.. لا أمنية لي في الحياة سوى أن تعود لي أسرتي.. أعرف أنها لن تعود، ولهذا سأحقق أنا أمنيتها، سأتابع دراستي لأكون محامية كما كانت رغبتها..
«كل شيء كان فوقي»
الشاب «إبراهيم زكريا» هو أيضاً، أحد الناجين من تحت الأنقاض، عندما استيقظ فجراً وشعر بأن جدران المنزل تترنح، سارع ليطمئن على والدته وشقيقته، فوجدهما في الصالون تضمان بعضهما بخوف انضمّ إليهما ووضع يديه على عينيهما، كي يمنعهما من رؤية انهيار جدران المنزل، بل كلّ شيءٍ حوله.. فجأة وجد نفسه معهما تحت ركام أربعة طوابقٍ، كانت فوق الطابق الذي يعيش فيه.
هذا ما قاله في لقاءٍ معه، وكان قد قضى خمسة أيام تحت أنقاض منزله في مدينة «جبلة».. فقد شقيقته، ولم يسمع صوتها أبداً، ووحده صوت والدته وصراخها، جعله يدرك بأنها مازالت على قيد الحياة، وتنتظر مثله فرق الإنقاذ..
طال وقت تواجده تحت الأنقاض، وكان انهيارها يتوالى عليه بطريقةٍ منعته من الحركة، وإلى الدرجة التي جعلته يفقد الأمل بإمكانية إنقاذه التي تمّت أخيراً.
يقول والدموع تغصّ في عينيه مثلما صوته، وعن شعوره ومحاولته إنقاذ نفسه، خلال فترة وجوده تحت الأنقاض:
«كانت والدتي وشقيقتي بجانبي على الأرض، شقيقتي توفيت بعد نصف ساعة، ووالدتي كانت تصرخ بسبب جدارين منهارين يضغطان على قدميها.. تمكّنت من إزاحة حجرين كانا يمنعان قدميّ من الحركة، وحاولت سحب أمّي رغم آلامي.. كانت قدمي ورأسي تؤلماني، وكنت أحاول أن أزحف، لكن كلّ شيء كان فوقي، لم يعد هناك مهرب.. كنت أسمع صراخ الناس وأصوات أخرى كثيرة، وهكذا إلى أن تمّ إنقاذي».
وليتها تنتهي..
نعم، لم تنتهِ الحكايا التي رواها قلّة قليلة، ممن اخترناهم «من الناجين».. لم تنته ولكن، سنكتفي كي لا يتفاقم ألم كلّ من أفجعته وأوجعته هذه الكارثة التي نختم حكايا الناجين منها، بما قاله عنهم منقذٌ لبناني، كان الأكثر تأثّراً وتأثيراً، وهو «علي صفي الدين»:
«إن زلزال سوريا، هو من أصعب تجارب العمل التي مررت بها.. المتواجد في الموقع يشاهد مدى قساوة الكارثة، وما خلفته من دمارٍ وانهياراتٍ كبيرة، إضافة للوفيات وطريقة انتشالهم القاسية على القلوب»..