الملحق الثقافي- دلال ابراهيم:
لزمن طويل بقيت مرمية في الزاوية المهملة، ولم يُعاد الاعتبار وتقديس ( عذراء اورليان ) جان دارك إلا في أعقاب هزيمة فرنسا أمام بروسيا، أي مع ظهور المفهوم السياسي ( الأمة ).. وقد تنازع على إيقونة المقاومة الفرنسية معسكران، كان أحدهما معسكر جان اليمين، أي جان المحاربة والملكية والتقية.. ومن طرف آخر كان هناك جان اليسار، تلك التي خرجت من صفوف الشعب وخانها الملك وأحرقتها الكنيسة.. حيث صدر حكم عليها بالموت حرقاً في عام 1431 بعد أن جرى تسليمها إلى الانكليز نتيجة خيانة ملكها لها وكانت في طريقها إلى تحرير باريس، بعدما تمكنت من تحرير اورليان وطرد الانكليز منها.. ومن ثم بقيت مغمورة لغاية عام 1909 حين جرى تطويبها كنيسياً، وفي عام 1920 أطلقت عليها نفس الكنيسة التي حكمت عليها بالموت حرقاً تسمية القديسة جان.. وكان الجنرال ديغول يسعى خلال الحرب العالمية الثانية إلى التذكير بها.. بينما كان فيشي يستخدم اسمها من أجل تأليب المشاعر الفرنسية ضد الانكليز.. وفيما بعد، ورويداً رويداً بدأت ـسطورة جان دارك تخرج من تحت عباءة اليسار، ولغاية نهاية السبعينات تخلى عنها كل الجمهور.. فانتهزت الجبهة الوطنية الفرنسية الفرصة للتمسك بها.. ولكن وحدها اورليان بقيت مدينة لها، حتى أصبحت اسطورة ملهمة للشعر .. وكان قد أعادها فولتير في القرن الثامن عشر إلى الحياة، ويسخر قائلاً: هذه الروح المتمردة جسدتها على أنها أنسانة غبية فقيرة وسخرت من عذريتها، مثيرة سخط الكنيسة، وهاهي مرة أخرى تعود للحياة وتستردها الثورة تروي قصتها، إنها تمثل طبقة الفلاحين الحاملين للسلاح، ابنة الطبقة الثالثة المنتفضة ضد الأعداء المتربصين على الحدود، إنها ضحية الكنيسة والقوى الظلامية التي جرى محاربتها بشراسة في ذلك العصر.
ولدى كتب العديد من المؤرخين تحولت جان دارك إلى بطلة، ومنهم المؤرخ جول ميشيليه الذي خصص لها في عام 1841 فصلاً في كتاب تاريخ فرنسا.. وقد كتب يقول:» نتذكر نحن الفرنسيون أن الوطن الذي نحن فيه قد ولد من قلب امرأة، من حنانها، من دموعها ومن دمها الذي أراقته من أجلنا». وبالنسبة للمؤرخ ميشيليه فإن عذراء اورليان ابنة الشعب المتمردة هي رمز جمهوري.. وهذا لم يمنع الملكيين من الاحتفال بها أيضاً .. ويعتبر الكاتب شارل موراس أن « المهم هو أن جوهر مهمة جان دارك هو أن الخلاص الملكي يتم تحت أمرة الملك».
واستغل اليمين الفرنسي تخلي الجمهور عنها ليتمسك بها ويعيد إحياء ذكرى رمز فرنسا جان دارك.. حيث سارع للاحتفاء بذكراها مع نهاية القرن التاسع عشر، لأنه رأى في عذراء اورليان تجسيداً حياً للوطنية.. وقد رسم هذا اليمين أوجه شبه قوية بين أعداء عصرهم آنذاك وبين أعداء القرن الخامس عشر حيث جرت فصول حرب المائة عام بين الفرنسيين والانكليز، وكما كانت تسعى جان دارك لطرد الإنكليز من فرنسا، كان الوطنيون يريدون التخلص من الغرباء اليهود.
في تلك الأثناء، كان اليسار مشتتاً في حالة فوضى.. هذا اليسارعلى الرقعة السياسية كانت استعادته لذكرى جان دارك يجري بشكل أكثر تكتماً وأقل إجماعاً.. ولكن اتهامها من قبل الكنيسة الكاثوليكية بالسحر والزندقة كان يعمل على تبريد الرؤوس الحامية في صفوفه.. وكانت قد دعت الصحيفة الناطقة باسم اليسار في عام 1904 إلى التخلي عن تقديس عذراء العسكرتارية والزندقة .. وبالمقابل واصل الاشتركيون تكريمهم لها، ولا سيما الكاتب شارل بيغي الذي خصص لها نصاً مسرحياً وكذلك جان جوريس الذي رفعها إلى مصاف الشخصية الوطنية في خطاباته.. وأثناء الاحتلال الألماني، اتخذت المقاومة الفرنسية جان دارك رمزاً لها وقد أشار إليها المقاوم الشيوعي حينها الشاعر اراغون صاحب ( عيون اليزا) في قصائده.
ودخل الشيوعيون على خط الجبهة الوطنية، حيث أولى الحزب الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية بقيادة موريس توريز اهتماماً شديداً بتلك التي دعاها ( الفلاحة الفرنسية التي تخلى عنها الملك وحرقتها الكنيسة) وتقول المؤرخة كريستين ليفيس- توزيه في كتابها ( المرأة المقاومة في فرنسا ) أن « جان دارك دخلت في التراث الوطني بناء على مطلب الشيوعيين « وبهدف إسباغ الشرعية، من وجهة نظرهم على عملية إعادة الاعتبار لجان دارك، كان على المفكرين الشيوعيين الشروع في إعادة شرح اسطورة جان دارك لكي تتوافق مع قيم الحزب الشيوعي الفرنسي.. فقاموا من أجل ذلك باستبعاد البعد الديني عن تلك التي كانت تسمع صوتاً إلهياً، أي المهمة الربانية التي أكدت خلال محاكمتها أنها لن تكشفها على أحد سوى إلى شارل الذي دعته مليكها، حتى ولو قطعوا رأسها..وابقوا فقط على هدف واحد لها هو انقاذ فرنسا.. والحقيقة أن الجبهة الوطنية في فرنسا لم تحتكر رمز عذراء اورليان إلا بعد رحيل موريس توريز عام 1964.. وتحولت جان دارك إلى رمز للهوية والمتظاهرة والشعبوية.. وفي هذا الصدد كتب النائب في الجمعية العمومية الفرنسية في عام 1987 برونو ميغريه يصف هذا الوضع قائلاً « إنها تذكرنا أن اليوم كما الأمس, فإن تخلت الطبقات الحاكمة عن هدف تأمين مستقبل الأمة على الشعب، في تلك الحالة ضرورة أن يمتلك بيده قوى التجديد».
أما بالنسبة للأحزاب الأخرى، فقد كان صوت دعوتهم إلى أن ( جان دارك تعود لجميع الفرنسيين ) غير مسموع جيداً.. وعلى الرغم من ذلك، قام الرئيس الاشتراكي الفرنسي فرانسوا ميتران في عام 1982 بزيارة اورليان من أجل الاحتفال بذكرى جان دارك.. مؤكداً بعد بضع سنوات أن زيارته تلك « لا تصب في خانة الكره للأجانب «.. وكذلك زار الرئيس جاك شيراك اليميني اورليان في عام 1996 ولكن لم يضف أي جديد في تأكيده على ما جاء به سلفه، وأعاد قول ميتران « كيف لا نستوعب كم كانت جان دارك بعيدة عن فكرة الازدراء والكره».
وحينما كان نيكولاس ساركوزي في الإليزيه حاول ساعياً لئلا يدع جان دارك حكراً للجبهة الوطنية.. وأيضاً من جانبه أحيا في عام 2012 الذكرى 600 لولادة جان دارك في بلدتها دومريري.. ومن اليسار، خصصت المرشحة الاشتراكية للرئاسة سيغولين رويال والتي شبهت نفسها بجان دارك في عام 2007 فصلاً من كتابها « تلك الفكرة الجميلة للشجاعة « الصادر عام 2013.
ولكن بقي صوت اليسار أقل مسموعية، رغم جميع مساعيه المحمومة.. بحيث يبدو أن عذراء اورليان بقيت من نصيب اليمين المتطرف.. الأمر الذي دفع الأمين الوطني لحزب اليسار الكسيس كوربييه إلى دعوة اليسار إلى رفع صوتهم « أن اليسار لا يمكنه أن يبقى غير مبال بتلك المسألة» وبتغريدة له كتب « إن قراءة تاريخية لشخصية جان دارك لا يمكن أن يكون مجرد حوار وثيق عن بعد بين اليمين المناهض للاشتراكية ( ساركوزي ) واليمين المتطرف.. ومن جانبه حاول الرئيس ماكرون أن ينتزع الصورة الأسطورية لجان دارك من أحضان الجبهة الوطنية.
وهذا يعني أن جان دارك، وبالتناوب بين اليسار وبين اليمين، بين الكاثوليك وبين المناهضين للأكليروس، بين الوطنيين وبين القوميين، وأحياناً الحركات النسوية جميعها قد أعيد إحيائها بجميع النكهات.. ويكفي من أجل ذلك، الامساك بجزء من تاريخها.» كانت دوماً تتجول بين اليمين واليسار « يلخص ذلك اوليفييه بوزي المدير المساعد لمركز جان دارك اورليان مستطرداً القول» إنه شكل مرن لكي يتم استخدامه من قبل الجميع «.
العدد 1138 – 28-3-2023