الملحق الثقافي- د. نضال الصالح:
تُعدّ رواية غسّان كنفاني الأولى «رجال في الشّمس» منعطفاً مهمّاً في مسار التجربة الروائية الفلسطينية، لأنها أول رواية فلسطينية استطاعت أن «تستوعب شروط تاريخها، محاولة رصد حركة جوهره والإجابة عن أسئلته»(21) من جهة، ولأنها تمثّل بداية رؤية متطورة للشخصية الفلسطينية التي أصرّت الروايات السّابقة لها على رثائها والتعاطف معها من غير أن توضح معنى ضياعها، أو الأسباب التي دفعتها إلى جحيم موت جديد كانت تسوق نفسها إليه راضية، من جهة ثانية.
يتوزّع محكيّ الرواية بين سبع لوحات: (أبو قيس، أسعد، مروان، الصّفقة، الطريق، الشّمس والظلّ، القبر) ينتظمها حدث واحد هو هجرة الشخصيات الثلاث الأولى فيها إلى الكويت بحثاً عن عمل بعد عشر سنوات من النكبة، ثمّ موتهم في خزّان الشّاحنة التي يقودها أبو الخيزران عند الحدود.
ولئن كان «من الطبيعي افتراض أن المشهد الأول في كل عمل ينطوي على غزارة ومعنى خاصين»(22)، فإن هذه الرواية تفصح عن مقولتها منذ اللوحة الأولى فيها: «أراح أبو قيس صدره فوق التراب الندي، فبدأت الأرض تخفق من تحته.. ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل مرتجة ثم تعبر إلى خلاياه.. في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال، منذ أن استلقى هناك أول مرة يشق طريقاً قاسياً إلى النور قادماً من أعمق أعماق الجحيم».
إن الأرض التي يتوحد أبو قيس بها إلى حد التداخل، أو إلى ما يشبه حال الوجد التي تذيب الفرع في الأصل، وتدغمهما في ذات واحدة، تشكل المقولة الرئيسة للرواية، التي ترى أن ابتعاد الفلسطيني عن أرضه يعني تهديداً لـه بالعجز والضياع، وضرباً من الوهم والخداع، أو بداية الطريق إلى موت مجاني.. فاندغام أبي قيس بالأرض وولهه بها، جعله ينتظر عشر سنوات، بعد النكبة، محتملاً الفقر والمذلة دون أن يفكر في الابتعاد عنها أكثر من المسافة التي كانت تفصل بين قريته ومستقره الجديد في فلسطين نفسها، لأن حلم العودة إلى تلك الأرض ظل هاجسه الدائم، والمتجذر في دمه، وهو نفسه الذي جعل مفردات حياته اليومية تتصل بها: «كلما تنفس رائحة الأرض وهو مستلق فوقها خيل إليه أنه يتنسم شعر زوجه حين تخرج من الحمام وقد اغتسلت بالماء البارد»، وهو نفسه أيضاً الذي جعله يحسد الأستاذ «سليم»، لأنه قضى فوق ترابها قبل أن يطأها المستوطنون الصهاينة: «أتوجد ثمة نعمة إلهية أكبر من هذه؟ صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إكرام موتك، ولكنك على أي حال بقيت هناك».
وعلى الرغم من أن الرواية لا تقدم مادة ما عن علاقة أسعد ومروان بالأرض، فإن النهاية الفاجعة التي تودي بهما إليها، تعني إدانتهما بسبب اختيارهما طريقاً معلقاً في الفراغ، منقطعاً عن الأرض، توهّما السعادة في نهايته.. وتجعل، من بعدُ، حتفهما مع أبي قيس ينتهي في خزّان الشاحنة، الذي يمثّل هو الآخر «انقطاعاً كاملاً عن الأرض، عن نبضها ورائحتها أمّا أبو الخيزران الذي كان يؤمن بأنّ القرش يأتي أولاً ثمّ الأخلاق، فإنّ ما يقوم به من فعل في خاتمة الرواية، أي عندما يرمي جثث الرجال الثلاثة فوق أكوام الزبالة ويسرق نقودهم، لا يستمدّ مسوّغه من جنونه بالمال كيفما كانت الوسيلة إليه، بل لأنّ الرواية تطمح إلى التأكيد بأنّ «مَنْ يتقن الكذب والخداع حدّ الخيانة هو ذاك الذي أمعن في القطيعة مع الأرض مكانياً وزمانياً»
وغير خافٍ أنّ التباين بين هذه الشخصيات على المستوى الجيلي يُضمر، فيما يضمره، القول إنّ حال العطالة التي ميّزت الواقع الفلسطيني في المرحلة التي تلت النكبة لم تكن سمة جيل بعينه، بل سمة الأجيال الثلاثة التي مثّلتها تلك الشخصيات، والتي كان لا بدّ من أن يفضي بها انقطاعها عن الأرض إلى ذلك الموت المجانيّ، وهي تمشي على «الصراط» الذي مثّله أبو الخيزران لها.
ومهما يكن من أمر النتائج النقدية التي انتهى إليها دارسو الرواية، اتفاقها أو اختلافها أو إضافات بعضها، ولا سيّما الرموز فيها(25)، فإنّ عدداً منها حمّل الرواية في تقديرنا ما لم تقله.. وإذا سلّم المرء ببعضٍ من تلك النتائج، فإنّ أيّة رواية، مهما كانت درجة اتصالها بالواقع ومطابقتها له، تتخيّر ما هو جوهريّ فيه، من غير أن يعني ذلك إحالة كلّ شيء فيها إلى رمز أو أكثر.. وتأسيساً على ذلك يبدو تفسير سامي سويدان للرقم (8) في الرواية، الذي يلعب، في رأيه، «لعبة الموت الفلسطيني بامتياز»ولعاً بالمنهج البنيوي الذي يلوي عنق النصّ، أحياناً، لقول ما لم يقله أحد من قبل.
ويمكن وصف الرواية بأنّها مزيج من ثلاثة اتجاهات فنيّة، يقف الاتجاه الواقعيّ على رأسها، وتتوزّع بنيتها العامّة بين الاتجاهين: الرّمزي والرّومانسي، ويتجلّى حضور الأخير من خلال علاقة شخصياتها بعنصرين رئيسيين: الأرض من جهة، والحلم بالخلاص الفردي من جهة ثانية.. فعلاقة أبي قيس، على سبيل المثال، بالأرض لا تتجاوز حنين الشخصية الرومانسية التي يدفعها عجزها عن التكيف مع الواقع إلى التفكير بالأرض بقصد السلوى، وليس بسبب وعيها لمعنى الارتباط بهذه الأرض.. أما العنصر الثاني فيتطابق تماماً مع حرص الرومانسية على تصوير «تجربة الفرد الذي يقف وحيداً في مواجهة العالم»(27)، أو على تغني هذا الفرد بالماضي المجيد للوطن بوصفه عزاء عن الحاضر ليس غير.. ولعل كنفاني تعمد ذلك رغبة منه في إدانة شخصياته أكثر، وفي القول إن حلم هذه الشخصيات بالخلاص من واقعها لم يتجاوز أنواتها الفردية، ولذلك فهو «محكوم بالفشل، محاصر داخل أسوار غربة الذات»
وبهذا المعنى الذي قصد كنفاني إليه، فإن الاتجاه الرومانسي، في الرواية، لا يبدو بمعطاه السلبي لأن الكاتب يتخير منه ما يحقق رغبته في كتابة «قصة تغير من شعور كل قارئ.. قصة إنسان فلسطيني بسيط عادي يتملكه فجأة إحساس لا يقهر هو إحساس العودة»(29) إلى الأرض، وبه أيضاً يمكن اعتبار «مضمون الرواية ثورياً بالمعنى التاريخي للكلمة، لأنه يكشف أن الهرب حل خاطئ يؤدي إلى الطريق المسدود».
ولئن كانت الحكاية في الرواية المغلقة تكتفي بنفسها، ويشرح فيها كل شيء(فإن غسان كنفاني تجنب ذلك تماماً، إذ جعل روايته «مشرعة، مفتوحة، غير مكتملة، وأبعد من أن تستدعي جواباً».. وإذا كان ثمة من جواب قد حرضت على التفكير فيه، فليس سوى ذلك الطريق الذي يعيد الفلسطيني إلى أرضه، طريق المقاومة الذي يخلصه من الانشغال بـ «أناه» إلى الوطن: الرحم، والأصل، والجذور.
العدد 1138 – 28-3-2023