هفاف ميهوب
في زيارةٍ كان الشاعر والأديب الإسباني “أنطونيو غالا” قد قام بها لدمشق، للمشاركة في أمسيةٍ شعرية، بدأ بقوله الذي قدّم به ديوانه “قصائد دمشقية”:
“إن من يحمل وردة لدمشق، كمن يحمل رملاً إلى الصحراء، لكنّ وردتي خاصة جداً.. إنها وردة قرطبيّة، ولن أفعل شيئاً سوى أنني، سأردّها إلى مكانها الأصلي
لم يكن هذا فقط، ما قاله “غالا” عن “دمشق”، فقد خصّها بمقالاتٍ وقصائد كثيرة، جمعها في كتابٍ أضاف إليه، ما شاهده وأذهله خلال جولاته العديدة في غالبية المدن السورية.. في “اللاذقية” التي سحرته بمداها الأزرق، حيث السّماء تعانق البحر .. “سماء اللاذقية الزرقاء، وبحرها السّماوي”.. أيضاً، أطلال “أوغاريت” التي دلّ على شعوره بالخشوع أمامها بقوله: “إنني في حضرة التاريخ.. هل تنام هذه الأطلال، أم نحنُ النائمون”؟..
كان “غالا” وبعد كلّ جولةٍ يزور فيها المدن السورية، يعود إلى “دمشق” ويزور أوابدها التاريخية.. لقد زار “معلولا” التي جذبته بحضارتها وجماليتها، فأبى إلا أن يجذبها لقصيدته التي حاكتها:
“يا معلولا الآراميّةُ المُتقلِّبة.. يا اللاذعة مثل قهوةٍ مشبعة بالهال.. يا المتدثّرة بالجبل.. يا المتوَّجة بالصلبان.. واثقةٌ أنتِ برأسكِ الملتفت إلى الخلف أو إلى الداخل.. من أنّ العالم ينتهي في لغتكِ وواحتكِ.. ما الذي تريدُ أن تقوله محاريبُكِ، مغائرُكِ، شقوقُ صخوركِ.. حروقكِ وندوبكِ”؟!.
إنه ما جعله يعاود زيارة سورية.. زيارة لاذقيّتها وحلبها وحماها وتَدمُرها ودمشقها.. دمشق التي دفعه جمالها وأوابدها وآثارها، للشعور وكأنها الحبيبة التي يتمنّى ألا يغادر أحضانها، والتي بقيت في ذاكرته، كأنثى من ياسمينٍ هي قصيدته:
“أتعثّر بزوايا الذكرى.. بالصباحاتِ الساطعة، وضوء الياسمين المشتعل، الذي هو أنتِ.. بالسعادة التي هي ابتسامتك”..
لم تكن “دمشق” وحدها التي جذبت “غالا” فأهداها عظيم كلماته ومحبته، بل جذبه أيضاً، أبناء قلبها، بأصالتهم وطيبتهم ورحابة قلوبهم.. السوريون الذين خاطبهم:
“أيها السوريون، أنتم أجداد الجميع.. المدن الأولى التي اجتمع فيها البشر لأول مرّة، موجودة عندكم في دمشق.. دمشق الحيّة كالحياة، الأكثر ديمومة وانسجاماً من أيّ مدينة على وجه الأرض.. الأكثر امتلاءً بالحيوية الساطعة.. دمشق المتحمّسة، المستديمة، الباقية في الحياة التي لا تكلّ ولا تُحدّ”..
نعم، لقد عشق “غالا” دمشق، وكان كلّما عاد لزيارتها، يحمل معه عطر الأندلس، فيمزجه بعطرها، مشكّلاً أكسير حياته وكلماته:
“عدتّ لأزور المناطق التي زرتها سابقاً.. الناس هنا أكثر انفتاحاً، ما يجعلني أفتح ذراعيّ لأضمّكم.. يا أيها السوريون أحبكم”.