الثورة – سعاد زاهر:
لعلها الهزائم تفتك بالروح قبل الجسد، ومن أكثر من الروائي الراحل حيدر حيدر (87عاماً ) قادرعلى تأريخ مبدع للهزائم وهو الذي عاش فترات ازدهار ثقافية كان فيها القلم يفضي إلى تغيير ما، لكن اليوم شلت الأقلام وأصبحت مغمسة بلقمة عيش مرة.
حين كتب ابنه مجد على صفحته في فيسبوك «الفهد غادرنا إلى ملكوته»، لم يكن بحاجة ليذكرنا برواية «الفهد» (1968) عن سيرة أبو علي شاهين، التي تحولت عام 1972 إلى فيلم سينمائي بالإسم نفسه للمخرج السوري نبيل المالح، فهي أصبحت بمثابة رمز روائي وسينمائي.
بين العزلة والترحال عاش الأديب متخماً بالأدب لينثر إلينا قصص وروايات ومقالات وشهادات، جميعها أتت جراء أسفار عديدة بين دمشق وبيروت والجزائر وقبرص وباريس، عمل خلالها في تدريس اللغة العربية في الجزائر…
الراحل أسهم في تأسيس اتحاد الكتّاب السوريين، وترجمت أعماله إلى اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والفرنسية.
قصصه القصيرة كـ «حالة طلق»، و»غبار الطلع»، و»صمت النار»، «وصخرة الغرانيت»، و»الوعول»، و»رقصة البراري الوحشية». بنيتها الفنية والأسلوبية متماسكة، ولغتها كثيفة وموضوعها حارّ في المضمون والمعنى والدلالة..
أما رواياته «مرايا النار»، فهي رواية حميمية وشفّافة، فلغتها مكثفة وشعرية. للمجاز الغامض فيها موقع أساسي، كما للخيال والغرابة بُعد سحريّ، كتبها «كما لو أنّه يرى حلماً سريالياً هبط عليه من عالم نيزكي ملوّن» كما قال يوماً….
في دمشق كتب روايته الزمن الموحش بعد أن عايش المؤسسات الثقافية، والمجلات والصحف والمكتبات، ولقاءات المثقفين والحوارات والندوات، ووجود المسرح والسينما والمعارض الفنية، كأن دمشق كانت المخبر والحاضنة الحارّة والأساسية لتجربته الأدبية الأدبية والثقافية.
لطالما راهن في كتاباته على القارئ وكأنه برهانه يزيح الناقد المتعالي الذي يحول النص الأدبي إلى جثّة بحيث يشرح ما هو مشروح في النص، ويسرد الوقائع والأحداث المسرودة في النص، ويخبرنا كم هو ضليع في اكتشاف السيرة الذاتية للكاتب، وهيمنة الراوي على النص.
مقولته» هزمنا ونعيش في النوستالجيا» التي قالها في أحد اللقاءات ربما تفسر لنا سبب عزلته في قريته حصين البحر، حيث رافقه البحر وكتبه التي تتجاوز الخمسة آلاف، مبتعداً عن كل تشوهات الحياة المدنية التي رصدها في روايته (الزمن الموحش)، لم يخف يوماً انتماءه إلى البحر والقرية بطبيعتها التي قال عنها في أحد اللقاءات:
«الطبيعة هي أُمّي، وانتمائي لها يعود ربما إلى نشأتي الريفية، إلى الأرض التي خبرتُ شِعابها، والبحر الذي آنستُ كائناته وغضب أمواجه، أنا صياد بطبيعتي، عشتُ حياتي في الصيد البري والبحري، علاقتي بالطبيعة علاقة عضوية، ومع البحر تحديداً، فبعد عودتي من المنفى عشتُ عشرين عاماً أصيد سمكاً في جزيرة النمل قبالة شاطئ طرطوس، الطبيعة جزء من حياتي مثلها مثل الكتابة والقراءة، فمثلما لا أستطيع النوم قبل ساعتين من القراءة، أيضاً لا أستطيع العيش من دون صيد، بعكس علاقتي مع المدن التي تسودها الضوضاء والعلاقات الإنسانية المزيفة إنني شخص عفوي لا أحبّ الأشياء المصطنعة المعقدة».
…بعيداً عن كلّ الاقتباسات الموحية في حياته، جاءت رواياته لتنقلنا إلى عوالم الشخصيات الداخلية بكلّ دوافعها وتمردها وقلقها، لنكتشف في أعماله أهمية البناء الروائي للشخصيات في الزمان والمكان، والبنية الداخلية، النفسية لهذه الشخصيات المأزومة، ونهايتها المهزومة، مستخدماً السرد التخيلي والشعري والمجازي بأسلوب ولغة ذات دلالة حداثية.
ولعل التحديث الذي اشتغل عليه الروائي هو في الابتعاد عن الرواية التقليدية, رواية الوصف الخارجي المعتمدة على رؤية العالم خارجياً، وإهمال العالم الداخلي والنفسي للشخصية دون أن يأسره في نصوصه الروائية مكان معين بل انتقل بالقارئ بين مختلف الفضاءات التي عاشها خلال أسفاره العديدة.
في وصية أخيرة أوصى أن تكون شاهدة على قبره كتب:(متواضعٌ كالرّمل، صاخبٌ كالبحر، عالٍ كالسّماء، حرٌّ كالرّيح).