من أكثر التقنيات التي تتطور بشكل سريع في عصرنا الحالي هي تقنية الذكاء الصناعي حتى كادت لا تدع مجالاً من مجالات الحياة إلا ودخلت إليه، وهي تتوسع بشكل كبير مع كل تقدم تحرزه.. إلا أن لهذا التطور تحديات كبيرة في سوق العمل، ومخاطر أكبر لا تقف عند حدود فقدان، أو انقراض عدد كبير من الوظائف التقليدية التي يقوم بها البشر لتحل الآلة محل العمالة البشرية، بل تتعدى إلى تغيير طبيعة هذه الوظائف من حيث ما يتطلبه الاختصاص العلمي لمزاولتها، أو ارتباطها بإدارة الذكاء الصناعي، بمعنى أن العامل لن يعود ليقف أمام الآلة وإنما خلفها يحركها.
إذاً فقد أصبحت التكنولوجيا مصدر تهديد للأفراد في سبل عيشهم، وفي اعتمادهم عليها كعنصر مساعد في كثير مما يقومون به من مهام، وأنشطة، حتى إذا ما تعطلت آلتها فقدوا القدرة على القيام بمسؤولياتهم كما سبق لهم أن يفعلوا بعد أن فقدوا استقلالية القرار، والتفاعل العفوي مع البيئة المحيطة، وهي أيضاً هذه التكنولوجيا المتطورة مصدر خطر على مستوى الدول في أمنها، واقتصادها، وثرواتها، ذلك لأن الاعتماد على الذكاء الصناعي لا يقل خطراً عن قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة إذا ما اختل لسبب ما ميزان البيانات، والخوارزميات التي تحكم خطوات هذا الذكاء وتسبب بفشل تقني، أو وقعت الأخطاء البرمجية التي تنحرف عن الأهداف بقرارات غير صحيحة قد تهدم دولاً، بينما عين الهجمات (السيبرانية) الشيطانية مفتوحة تترصد.
ولما كان مسار التطور التقني المستقبلي سيؤدي إلى الاعتماد الكلي على الذكاء الصناعي رغم ما يحمله معه من خطورة كبيرة لذلك كان لابد من التنبه، والأخذ بعين الاعتبار لهذه الخطورة قبل أن يقع المحظور وذلك بأن يتم تشجيع البحث، والتطوير، ومراقبة العلماء، وفلاسفة العلم والتفكير النقدي لكل جديد يبزغ فجره بهدف التغلب على التحديات، والمخاطر المحتملة من سلوكيات غير متوقعة للآلة الذكية، وسعياً بالتالي نحو عدم الوقوع في فخ الاعتماد الكلي عليها.
وها هو الأب الروحي للذكاء الصناعي، وعرّابه (جيفري هينتون) يحذر من مخاطر كبرى على البشرية قد يقترفها الإنسان بحق نفسه إذا ما أوغل في هذه الطريق ما دام النهم يستولي عليه لمزيد من التطور التقني، ويقول: “إن قدرات الذكاء الصناعي قد غدت مخيفة جداً مع ازدياد مهارات الآلات في عدد أكبر من المهام”. وهو إذ يتملكه الخوف من ذلك إنما ينظر بعيداً إلى مستقبل غامض للألفية الثالثة لا يقل فيه الخطر التقني عن الخطر النووي الذي ساد في القرن العشرين، إذ قد يصبح الذكاء (التوليدي) متفوقاً على البشر بحيث يغدو بإمكانه إنشاء خوارزميات لنفسه تجعله يتمرد بها على صانعيه ليفقدوا بالتالي السيطرة عليه تماماً كما هو الحال في أفلام السينما، وروايات الخيال العلمي.
وها هي صناعات الرقائق الإلكترونية بقدراتها المذهلة تعد ببرامج أكثر ذكاءً، وبأرباح للقائمين عليها بما يفوق المليارات، ويصل إلى التريليونات من الأموال المتدفقة مع كل إصدار جديد لها يدعمه الطلب المتزايد عليها، وهذا أمر اقتصادي بالغ الأثر في مردوده المادي، ومساره التطوري، أما التكنولوجيا التي تجهد في محاكاة السلوك البشري فالمنافسة في أسواقها تكاد لا تهدأ، وما تقدمه من إنجازات باهرة تكاد هي الأخرى تصل إلى حدٍ لا يمكن معه تمييزها عن الانجازات التي يقوم بها البشر بأنفسهم. وأما الفضاءات الافتراضية فإن الناس يخدمونها طواعية بما لا يُقاس من خلال إقبالهم عليها، وتفاعلهم معها، مستبدلين بها عالمهم الحقيقي، والواقعي.
فهل سيرصد هذا الأب الروحي نادماً جائزة للتحرر من سطوة الذكاء الصناعي، وكبح جماحه، وتكفيراً عن مسيرته الذكية، والتي ستغدو مستقبلاً كارثية، شأنه في ذلك شأن (ألفريد نوبل) الذي ما زال تكفيره عن ذنبه مستمراً؟