الثورة – ديب علي حسن:
من كوارث هذا العصر وفضائحه القيمية والأخلاقية ما ظهر قبيل نهاية القرن الماضي ومع بدايات هذا القرن، من حقد على الطفولة التي هي نسغ الغد، وكانت الولايات المتحدة ومازالت هي المحرك الأول للشر ضد الطفولة والإنسانية، فهل تذكرون أن أحد المسؤولين الأميركيين حين سئل عن ملايين الأطفال العراقيين الذين قضوا، رد ببساطة: الأمر يحتاج ذلك، وماذا يعني عندهم أن يموت أطفال العالم، أن يجوعوا أن يمرضوا أن يعروا، ماذا يعني أن يتشرد الملايين منهم ويبقوا من دون طعام أو شراب أو دخول المدارس، ماذا يعني أن يربوا مع الحيوانات الشاردة؟.
ما دام الأمر ليس لديهم فهذا لا يهم، فقط بيانات استنكار، وبكاء فوق جثثهم، من العراق إلى أفغانستان إلى سورية إلى فلسطين المشهد واحد, والعدو واحد, الولايات المتحدة الأميركية ومعها الكيان الصهيوني, في سورية عاثت قطعان الإرهاب قتلاً وتدميراً بحق كل شيء, وكانت الطفولة في المقدمة, فجروا المدارس, بقروا بطون الأمهات, بل وصل الأمر بهم إلى إحراق الأطفال في الأفران، كما فعلوا في عدرا العمالية، ومازالت صرخة ذاك الطفل ماثلة حين صرخ بوجه جلاديه وهو يلقى حتفه: سأخبر الله بكل ما تفعلونه.
الأمر لا يحتاج إلى مقارنات بين ما جرى ويجري على أرض فلسطين لأنه واحد، آلاف الأطفال يلقون حتفهم عن عمد، وفوق سياسة التطهير العرقي والحقد الصهيوني على كل ما ليس صهيونياً، وفي فتاوى حاخامات العودان (لا تنسوا أن تقتلوا الأطفال, لأنهم سيكبرون..) وبصيغة ثانية قالت ذلك غولدا مائير: أشعر بالرعب من كل طفل فلسطيني يولد، وعلى منوالها يمضي قادة الإرهاب في الكيان الصهيوني، وهل نذكر أن فطير صهيون يجب أن يكون مغمساً بدم طفل من غير اليهود الصهاينة؟.
العالم الذي ينظر ويرى ويتابع ويصمت عما يجري، هو في حالة توحش كاسرة يغتال غده، يزرع الحقد والموت والدمار، وكم هو جميل أن نذكر العالم بما كتبه الشاعر: مامي جين كول
أنا طفل الدنيا كلها في انتظار مجيئي
العالم يحبس أنفاسه ليعرف من سأكون
مصير الحضارة على كفة الميزان
فعالم الغد رهن بغدي أنا
أبتهل إليكم امنحوني مفاتيح السعادة
أتضرع إليكم علموني
أن أكون بركة على العالمين
فهل من يسمع، من يرى واقع المآسي والكوارث، هل من يسمع الطفل الفلسطيني الذي سئل عما يحلم أن يكون في المستقبل؟
وكان جوابه المؤلم حد الفجيعة: لن أحلم بشيء فنحن يغتالنا العدو قبل أن نكبر، أي مأساة أعمق وأكثر إيلاماً من هذا؟.
وإذا ما تركنا مشهد اليأس العالمي المكفهر ونقلنا بعضاً مما قاله المبدعون في الطفولة, نجد أن الأدب العربي قديمه وحديثه هو الأنبل في ذلك، ومن أنقى ما قاله لدوي الجبل:
وسيم من الأطفال لولاه لم أخـف **** على الشيب أن أنـأى وأن أتغربـا
تودُّ النجوم الزهر لـو أنهـا دمـى **** ليختـار منهـا المترفـات ويلعبـا
يزفٌّ لنا الأعيـاد عيـدًا إذا خطـا **** وعيدًا إذا ناغـى وعيـدًا إذا حبـا
ويا رب من أجل الطفولـة وحدهـا **** أفِض بركات السلم شرقًا ومغربـا
وصُن ضحكة الأطفال يا رب إنهـا **** إذا غردت في موحش الرمل أعشبا
ويا رب حبب كل طفل فـلا يـرى **** وإن لج في الإعنات وجهـًا مُقطبـا
وهيئ له في كـل قلـب صبابـةً **** وفي كل لقيا مرحبـاً ثـم مرحبـا
بدوره شوقي بغدادي يرى أنهم الغد الذي يجب أن نحسن بناءه، ونعمل ليكونوا بركة وسلاماً علينا، وهل أجمل من الطفولة التي هي نسغ الحياة:
هنا في فراغ القلب طاروا وحوموا فراشات حقل في عيوني تدوم
أراهم مدى عمري فكل قصيدة أغني قوافيها التي تشتهى هم
أحبهم في العيد فرحة بيتنا مع الفجر قاموا وارتدوا ثم سلموا
أحبهم عند الشتاء إذا غدوا فضج بهم صف وناء معلم
فإن رجعوا فالبيت منهم قصائد تعاد وأرقام مئات تنظم
أمامهم الدنيا مروج جميلة وقفز على العشب الطري منغم
لأمثالهم نبني ونرفع عالماً على الأرض يحيا الطفل فيه ويسلم
وعلى ما يبدو، فإن العالم المترف بكل شيء في الغرب إلا من القيم الأخلاقية ليس بوارد أن يرى براعم الآخرين تنمو وتزدهر, هل يعقل ونحن في القرن الحادي والعشرين أن يبقى هذا التوحش المرعب، أن تكون الطفولة هدف العدوان، أن تمزق قذائف الصواريخ أجساداً غضة وهل على المنافس؟.
وهل يعقل هذا الصمت المريب من منظمات أممية تدعي أنها تصون الطفولة وتعمل على حمايتها، من كل شبر في العالم وقع تحت العدوان الغربي، ثمة صرخة طفل تملأ الكون يتردد صداها: إنكم كاذبون، وإنكم مهزومون، دمنا سوف ينتصر على حاملات طائرتكم، على عدوانكم، وصرخة بدر شاكر السياب ستورق:
عصافيرُ؟ أم صبيةٌ تمرح؟
أمِ الماءُ من صخرةٍ ينضح؟
وأقدامها العاريه
مصابيحُ ملءَ الدُّجى تلمح،
هتكنا بها مكمنَ الطاغيه
وظلماءَ أو جاره الباليه
علينا لها: إنها الباقيه
وأنَّ الدواليبَ في كلِّ عيد
سترقى بها الريحُ.. جذلى تدور
ونرقى بها من ظلامِ العصور
إلى عالمٍ كلُّ ما فيهِ نور