عبر تاريخ منطقتنا العربية الممتد عمقا” في التاريخ ومركز ومنطلق الحضارة الانسانية ، وقلب العالم النابض تعرضت بحكم أهمية ذلك الموقع وما يكتنزه من ثروات وفرادة موقع لأشكال متعددة من الغزو والاستعمار والاحتلال من الروم إلى الفرس إلى التتار والصليبيين والاتراك وصولا للانكليز والفرنسيين والطليان وآخر تلك الغزوات والاحتلال الصهاينة عصارة الاستعمار الغربي ومع كلّ ما حمله اولئك المستعمرون وتسلحوا به من اشكال القتل والتدمير ومحاولات الالغاء والتغريب والسطو على الهوية والتاريخ إلا أن كل محاولاتهم باءت بالفشل الذريع وخيبة الأمل والهزيمة المذلة حيث استطاع العرب أبناء الأرض والتاريخ والحضارة والرسالة الانسانية هزيمة كلّ اولئك الطارئين وطرد فلولهم لا بل إن ثقافة المكان ثقافة أصحاب الأرض هضمتهم ثقافة وتقيأتهم أرضاً فولوا مولي الأدبار يجرون أذيال الهزيمة والعار ولعنة التاريخ.
لقد استطاع العرب والمسلمين قبل أكثر من 1400 عام هزيمة أكبر إمبراطوريتين في التاريخ سيطرتا على أكثر من نصف المعمورة لمدة تزيد على 600 عام هما الفارسية والبيزنطية الرومانية وذلك خلال عشر سنوات فقط من قيام دولة المدينة الناشئة وهذا في الحسابات التاريخية من المعجزات لاسيما وانهما امبراطوريتان قويتان وراسختان فرضتا نفسيهما على شعوب العالم آنذاك وعلى انقاضهما قامت أكبر امبراطورية عربية اسلامية كان مركزها دمشق امتدت من شرق اسيا الى غرب افريقيا محررة المنطقة العربية من السيطرة الخارجية وراسمة ملامح نظام عالمي جديد نواته رسالة الاسلام والعروبة الحضارية التي استوعبت كلّ المكونات على تنوعها دونما الغاء لها ،ولكن تحت هوية جامعة يقتضيها العمران الامبراطوري واستمرت تلك الامبراطورية العربية الاسلامية مئات السنين وتحت مسميات مختلفة ومراكز متعددة اقتضتها ظروف الصراع من الدولة الاموية إلى العباسية والفاطمية والايوبية والمملوكية وصولاً للامبراطورية العثمانية التي كانت استثناء” مما سبق حيث انتقلت العاصمة خارج الجغرافية العربية وأصبح الخليفة غيرعربي وفي ذلك خروج عن السياق التاريخي والهوياتي.
لقد بقيت البلدان العربية حتى مطلع القرن العشرين تحت ولاية واحدة وجيوساسي واستراتيجي واحد حيث بدأ التفكك في الجسم الامبراطوري بعد اتباع سياسية التتريك في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وتنامي الحس القومي العربي وصولاً للحرب العالمية الأولى وهزيمة السلطنة العثمانية وتحرر البلدان العربية من السيطرة العثمانية ووقوعها تحت الاحتلال الاجنبي الغربي وتقاسم ما سمي تركة الرجل المريض وترافق ذلك مع حركة تحرر عربية على مستوى الاوطان من الاستعمار الغربي الذي سعى في بعض الاقطار العربية لتغيير هوية المكان والشعب سواء الايطاليين في ليبيا والصومال والفرنسيين في الجزائر وتونس ومنيت كلّ المحاولات بالفشل الذريع أمام تمسك الشعب العربي في تلك البلدان بهويته الاصيلة ودفاعه عنها ليعقب ذلك المشروع الصهيوني القائم على احتلال فلسطين بزعم أنها أرض شعب الله المختار، وأنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض والذي استثمر في لحظة هاربة من التاريخ لم تتح للعرب التقاط أنفاسهم وإعادة بناء دولتهم القومية.
لقد سعى الصهاينة عبر موجات الاستيطان التي بدأت قبل إقامة الكيان بأكثر من خمسين عاما” تكريس حالة يهودية على الجغرافية الفلسطينية عبر الاستيطان والتهويد والطرد ومحاولات السطو على الهوية العربية الفلسطينية واسباغ طابع يهودي عليها ،وكل ذلك جرى بتواطؤ استعماري بريطاني ومن ثم أميركي ومع مرور أكثر من مائة عام على ذلك إلا أن كل محاولاتهم منيت بالفشل الذريع حيث بقي الشعب العربي الفلسطيني سواء داخل فلسطين والاراضي العربية المحتلة أو في الشتات والنزوح واللجوء متمسكا” بأرضه وهويته ومدافعا” عنها ومتشبثا” بحق العودة ومتسلحا” بالمقاومة المسلحة وغير المسلحة لاستعادة حقوقه وقهر مستعمريه وغاصبي حقوقه ،ولعل أبرز تجليات ذلك ما شهدته وتشهده الساحة الفلسطينية ولاسيما قطاع غزة من مواجهة وحرب غير مسبوقة بين قوى الاحتلال والمقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية حيث يقدّم الشعب الفلسطيني النموذج في الشجاعة والاستبسال في الدفاع عن أرضه وهويته وحقّه المشروع في إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها مدينة القدس ولتبوء كلّ محاولات الكيان الصهيوني الهادفة لتهويد الأرض الفلسطينية وطرد سكانها منها عبر القتل والتهجير القسري والمكاني بالفشل الذريع ويبرزعنوان اقامة دولة فلسطينية فوق كلّ العناوين الالغائية والتضليلية ويعترف العالم أجمع بحقيقة أن ثمة دولة فلسطينية وشعب فلسطيني لا يمكن للغزاة مهما امتلكوا من أدوات القتل والاجرام أن يسقطوا أو يلغوا هذه الحقيقة الراسخة عبر التاريخ وترفض أرض فلسطين وتتقيأ اولئك المستعمرين الطارئين عليها ، وهذا هو نداء التاريخ وحقيقته التي لا يستطيع اولئك الصهاينة المجرمين استيعابها وتجرع مرارة كأسها.