الثورة- علا محمد :
في زحام المدينة، هناك رصيف هادئ وسط الصخب والضجيج، يجلس عليه بائع الكتب الرجل الذي يحمل في حقيبته ثروة من الحكمة والمعرفة، يستقبل الناس بابتسامة مشرقة و عينين تشعان بالشغف والحماسة.
وعلى رصيف الكلمات يتلاقى العالم بأكمله، يأتي الشباب المتوهج بالأحلام والكبارالذين يبحثون عن ملجأ لأفكارهم، يأتي القراء المتعطشون للمغامرة والمعرفة والباحثون عن الهروب من صخب الحياة للانغماس في عوالم جديدة ومختلفة.
رصيفٌ ينبض بالحياة و فيه تتجلى قوة الكتب «رصيف مقهى الهافانا» حيث تعرفت «الثورة» على بائع الكتب محمد عدنان الشنواني المنادى بـ «العم أبو حسان» الذي روى لنا قصته مذ كان صغيراً، والتي بدأت بتوزيع الصحف حين كان والده في فترة الثلاثينيات يعمل في بيع الصحف على الرصيف.
وكانت سورية آنذاك تعيش انفتاحاً كبيراً، فالصحف كانت تصل من لبنان ومصر و دول أخرى واستمر الحال على ذلك إلى أن انتشرت جائحة الكورونا و توقف معها بيع الصحف الورقية، حينها انتقل والده لبيع الكتب واختاروا ذات المنطقة لتكون مستقراً لهم، فما يميزها وجود مكتبات كثيرة كـ دار اليقظة العربية ومكتبة دار دمشق وغيرها.
حبّ القراءة رافقه منذ الصغر فقد كان يقرأ كلّ ما يقع ين يديه من قصصٍ للأطفال ،لأن الاهتمام آنذاك كان محصوراً بالرياضة والقراءة والدراسة باعتبار أن التلفاز لم يكن متوفراً ،فكانت الناس تلجأ للسينما والمسرح إلى جانب القراءة ،وهذا ما جعل من الجيل القديم جيلاً واعياً، وليس كجيل اليوم الذي تغيرت معه المفاهيم وأصبح بعضهم منصرفاً لأتفه التسالي من جملتها الألعاب الالكترونية والتدخين وأي شيء فيه مضيعة للوقت.
ويكمل لنا العم أبو حسان : أنه رغم ذلك ما زالت القراءة حيّةً تظهر في حركة الشراء الجيدة للكتب و الملاحظ الإقبال على الكتب الجديدة أكثر من القديمة بسبب الحاجة لها دراسياً أو ثقافياً للتسلح في مواجهة المجتمع، فالإنسان يجب أن يكون لديه دراية بعصره ومجتمعه ولا يتحقق ذلك إلا بالتعمق في القراءة ،
إضافة إلى أن الضائقة الاقتصادية والاجتماعية والانقطاع المستمر للكهرباء دفع بالكثيرين للبحث عن القراءة، وأكثرالكتب المطلوبة للجيل الجديد هي الكتب التي تحاكي النفس وتعالجها أو الكتب الأدبية والروايات القديمة وكلّ حسب توجهه إن كان بيئة أو صناعة إلى ما غير ذلك ، أما الجيل القديم فهناك فئة كبيرة حتى الآن يهمها ألا يفوتها أي كتاب دون أن تقتنيه أو تقرأه
وعلى الرغم من التطور الالكتروني الذي لم ولن يؤثر « بنظر أبو العم أبو حسان» إلا أن القراءة مازالت هي المفتاح ومن يقرأ كتاباً يشعر بلذةٍ كبيرة فلا شيء يضاهي رائحة الورق القديم.
بائع الكتب ليس ببائع فقط بل هو شخص مثقف ومستكشف وصديق ما إن يرى شخصاً يلتقط من عنده كتاباً حتى يهب لرواية فحوى الكتاب وتراه مدمناً على صفحاته ومغرم بأحداثه…
العم أبو حسان يعرض مجموعة من الكتب تناسب كلّ ذوق واهتمام ، يستطيع الوصول إلى قلوب الناس وتحويل كلماته إلى رحلة سحرية تجعل المستمع له يقتني رواية أو كتاباً ملهماً.
يقول العم أبو حسان : بعض الكتب أنصح بها لأنها تقدّم فائدة ومتعة وهناك من يقوم باستعارتها وإعادتها لاحقاً وعند نصح الشخص أطرح عليه أسئلةً لأعرف توجهه واهتمامه فالزبون أمانة وعلينا احترام عقله.
وهنا قص علينا بائع الكتب أحد المواقف التي مر بها عندما لاحظ كثرة الطلب على رواية ( 11 دقيقة ) للكاتب باولو كويلو و لم يكن قارئاً لها بعد ، فأخذها لمنزله وبدأ بقراءتها فوجد أنها تملك عبرة للكبار و لكن فيها إثارة لليافعين بسبب ذكر تفاصيل دقيقة وخاصة ، فتوقف عن إحضارها لمجموعة الكتب التي يبيعها وخاصة أن الطلب عليها كبير من قبل الفتيات وهو يرى بأن هذه التفاصيل تؤدي إلى تغيّب تفكير البعض -أي إفساده بطريقة غير مباشرة- بينما قراءة هذه الرواية تتطلب التجرد وإلا سيتأثر الشخص بها سلبياً ويقول : أنا حذر بمعرفة فحوى كلّ كتاب وأي كتاب غير جيد لا أبيعه بل أختار حسب المعايير التي تعطي الفائدة الفكرية والنفسية والعقلية وحريص على متابعتي للقراءة فالإنسان يجب أن يعايش عصره ولا ننسى قول القدماء : من لم يفقه أهل عصره فليس منهم ، لذلك على الإنسان أن يعرف الماضي وتجاربه ويعيش الحاضر وتقتنياته وأخلاقه وعمله و يحاول النظر للمستقبل.
وعند سؤالنا للعم أبو حسان عن ما إذا كان يملك مصدراً للرزق آخراً غير بيع الكتب أجاب : بأنه لم يعمل يوماً غير بائعٍ للكتب، هنا على هذا الرصيف وفي كلّ ظروف الطقس القاسية وأنه يرفض أي ماديات غير مشكورة لذلك يُرزق من حيث لا يحتسب…
وختم بائع الكتب جلسته معنا بقوله : أثّر الكتاب في حياتي وشخصيتي كثيراً ، وهذا أمر طبيعي فإن لم يؤثر الكتاب في الإنسان فهو بالتأكيد شخص ميت .وتمسك بحقيقة أن القراءة لم ولن تموت ، فكلمة «اقرأ» نزلت من السماء ، داعياً من لم يلتفت للقراءة يوماً إلى خوض هذه التجربة التي حتماً ستغير مساره نحو الأفضل .

التالي