ثمة قصة من أيام العرب قبل الإسلام بطلها السموأل العربي الذي يدين باليهودية صاحب اللامية المشهورة التي احتوت أجمل ما قيل في أخلاق العرب وكان قد توفي قبل بعثة النبي محمد بحوالي أربعين عاماً وهو ازدي يهودي من يثرب التي سميت فيما بعد المدينة المنورة وثمة مثل عربي أوفى من السموأل حيث ائتمنه امرؤ القيس على دروع له وقال له :إن قتلت فلا تعطها إلا لأحد أبنائي ولما مات امرؤ القيس في تركيا الحالية جاء أحد أمراء العرب وطلب منه اعطاؤه اياها فرفض ذلك وقام الأمير بقتل ابنه جراء رفضه ووفائه لمودعه هكذا كانت أخلاق العرب في تلك الأيام وعبرعنها السموأل بقوله في لاميته:
اذا المرء لم يأنس من اللؤم عرضه فكلّ رداء يرتديه جميل
وانا لقوم لانرى القتل سبة اذا ما رأته عامر وسلول
وما مات منا سيد حتف انفه ولا طل منا حيث كان قتيل
واذا خلا سيد منا قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول
هذه كانت أخلاق العرب قبل الاسلام وكم اضاف اليها فلننظر إلى ماكان لدينا من تراث نعتز به من حياة كريمة حتى لو كان ثمنها الموت فكان حيث يفتخر العرب بالموت قتلا” . ولا يموتون حتف انوفهم ثم جاءت قصة الموت والشهادة في الإسلام وتعظيمها في أدبياتنا وديننا فالشهداء هم أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر فالشهيد هو حي عند رب العالمين هذا الأمر يقودنا إلى مسألة على درجة من الأهمية تتعلق بالوضع الراهن حيث الوضعية العربية والصراع مع العدو الاسرائيلي وانتهاك الحرمات وبقاء بعض العرب في دائرة المتفرجين الذي كأنهم لا ينتمون الى منظومة القيم العربية والاسلامية التي أشرنا اليها وفي هذا السياق يقودنا الحديث الى قيمة الحياة والموت والقوة في مفاهيمنا ومفهوم الغرب وفلسفته للحياة والموت فمنظومة التحليل الاستراتيجي الغربي في نظرتها للعرب والشرق عموما” تعاني من قصور عن وعي واقع الامم خارج الدائرة الغربية لذلك هي لاتستطيع أن تفهم ذلك الوعي أو تتنبأ بمآلاته ،فلو نظرنا الى أغلب الأحداث الهامة التي شهدتها المنطقة خلال العقود الثلاثة الماضية لوجدنا أن الاميركيين والغربيين عموماً بالرغم من أجهزتهم الاستخباراتية والعقل الاستعماري وتاريخه لم يستطيعوا أن يتنبهوا أويتوقعوا ردة الفعل بل فوجئوا بها، فعندما يتفاجأ أحد ما بمسألة مرة واحدة فهذا ممكن وطبيعي ولكن أن تكررت المفاجآت في الوقائع والأحداث فهذا يعني أن النموذج التفسيري للشخص أو الجهة المعنية للأحداث فيها خلل أو قصور حيث فوجئوا في العراق وافغانستان وفلسطين وغزة وسورية وصمود كلّ هذه الدول والسبب هو أن منهجهم التفسيري للأحداث والوقائع في بلداننا لا يستطيع العقل الغربي أن يفهم الأحداث فهماً دقيقاً يؤدي إلى توقع ما يحدث والسبب يكمن في أن العقل الغربي الاستراتيجي هو عقل يتمحور حول القوة المجردة او القوة الصلبة فموازين القوة لديهم ينحصر ويتمركز في القوة الصلبة المادية متمثلة بالطائرات والاساطيل والقواعد العسكرية في العالم وغيرها وأدوات البطش والمؤسسات الدولية التي تصنع قواعد اللعبة الدولية وتتحكم بها كمجلس الأمن وصندوق النقد الدولي وغيرها فالقوة ومركزيتها في العقل الغربي هي من صنع العقل الادراكي الغربي الذي صنع النظام التفكيري والتفسيري للأحداث وهذا ما يوقعهم في المشاكل لتمحورهم حول منطق أو عنصر القوة الذي طالما أدى إلى الضعف وهي قاعدة تاريخية لا يمكن أن تتغير بمعنى أن منتهى القوة لأي امبراطورية أو دولة تصل فيها إلى اللحظة التي تعتقد انها سيطرت على مقاليد الأمور والقدرة على الهيمنة في هذه اللحظة تبدأ ساعة الانحدار على قاعدة عند الكمال يبدأ النقصان وهذه مسألة لم تتغيرعبر التاريخ فانطبقت على الفرس الروم والعرب والمسلمين والصليبيين والانكليز والفرنسين والالمان والسوفييت والأميركان مستقبلا” .
والى جانب عنصر القوة المجردة تبدو مشكلة الغرب في عدم تقدير موازين القوى المعنوية كالارادة والايمان والعقيدة وحب الشهادة وثقافة الحياة عند بعض الشعوب ومنها العرب والمسلمين وغيرهم فموازين القوى شيء وتعريف القوة شيء آخر. فالغرب يعرف القوة وفق مرجعيتهم الادراكية التي تعتقد أن المادة هي أصل كل شيء ومنتهى ما يحصل عليه الانسان في حياته ومن لديه مال أكثر وسلاح ورجال أكثر،يستطيع أن يفعل ويقوم بما يشاء أما نحن وغيرنا من شعوب الشرق نعتقد أنه صحيح أن الأقوى سوف ينتصر ولكن مفهوم عناصر القوة لدينا مختلف ولا ينصرف ويتمركز حول القوة المادية المجردة ،وإنما القوة التي تصنعها عناصر أخرى مهمة كالارادة والايمان والعقيدة والانتماء والشهادة وفهم الحياة المتعدية للحياة الدنيا وليس فقط حياة اللحظة ومتعتها، فنحن إذن أمام مفهوم آخر للقوة هو الذي يفسرالانتصارفي غزة وفي لبنان والعراق وسورية وافغانستان واليمن والجزائر وفيتنام وجنوب افريقيا وكوبا وغيرها من دول وشعوب العالم .
ولعل هذا المفهوم للقوة هو ما نحن بصدده في فلسطين المحتلة والحرب في غزة والضفة ولبنان في مواجهة كيان هو نموذج لطريقة التفكير الغربي التي اشرنا اليها مع أننا أمام خلطة وليس شعب تمارس حكومته القوة لامتلاك شرعية وجود بالقوة الى وجود شرعي بالقبول( فاسرائيل )التي وجدت ونشأت في احضان منظومة قوية قبل عدة عقود وهي الغرب بضفتيه أميركا وبريطانيا وفرنسا هذه المنظومة تعيش اليوم بداية حالة تفكك لانها تهتز في عالم يعيش حالة انتقال إلى نظام دولي جديد لذلك نجدها اليوم تريد أن تقول :إنني موجودة بالقوة الذاتية وليس لأني صناعة أو نتاج منظومة تتفكك لاسيما وأننا نعيش زمن الانعطافات الحادة وفيها مسرعات وأسرع من التفكير لذلك نرى ان اسرائيل تريد اشعال حرب مع ايران لأسباب موضوعية بالنسبة لها لأنها تعيش حالة قلق وجودي فالصهاينة يعتقدون أن ايران ستمتلك قنبلة نووية ومواجهتها ضرورية ليس لانهاتدعم حزب الله وحماس والمقاومة فقط وإنما لأنها تمتلك إمكانية صنع قنبلة نووية وهذا الأمر يحتاج الى سنة أو سنة ونصف لكي تصنع جهاز يوصل أو يحمل القنبلة النووية وهو الصاروخ الحامل للرأس النووي فهي ترى أن التهديد لهيمنتها الوجودية هو القوة وليس الشرعية التاريخية ولا الشرعية الدينية ،وانما القدرة على الغلبة لكل من هم في المنطقة من عرب ومسلمين بمعنى أن تكون قوة اسرائيل معادلة لكل القوى الموجودة في المنطقة والتي ترى فيها تهديداً مباشراً أو احتماليا، فعندما تمتلك ايران او دولة أخرى في المنطقة سلاحاً نووياً فإن موازين القوى ستتغير ويصبح هناك مقابل مساوي لها بالقوة وهنا تسقط وتنتهي فكرة أنني سيد او سيدة في المنطقة عبر القوة الردعية التي تريد احتكارها لذلك فإن (اسرائيل )حتى تحافظ على هذه الميزة الردعية تريد أن تدمر البنية التحتية لصناعة قنبلة نووية ايرانية كما فعلت في مفاعل تموز في العراق عام 1981 وهي في سبيل عرقلة ذلك المشروع أو تدميره تعمل على جر أميركا لمواجهة عسكرية مع ايران منذ الرئيس باراك اوباما ثم دونالد ترامب وراهنا” مع بايدن وفشلت في ذلك حتى الآن وهي في سعيها التحريضي تريد أن يقوم غيرها بهذا العمل الانتحاري حتى لا تدفع ثمن تلك المغامرة الخطيرة وإن نجحت في توريط أميركا بذلك فستكون وحدها من يملك هذا التميز الاستراتيجي ، الأمر الآخر حتى لو افترضنا أن غزة لم تعد تشكل خطراً على اسرائيل من خلال وقف الحرب او الاتفاق مع المقاومة ولكن هناك فثمة شيئا” آخر هو حزب الله الذي يملك قوة كبيرة ولا تستطيع اسرائيل جعله يتخلى عنها وليس هذا فقط بل هي لا تقبل أن تكون أي دولة في المنطقة حتى لو كانت لا تعاديها بقوة موازية تقليدية فلديها مشكلة تكمن في كثرة اعدائها سواء كان حزب الله أواليمن أو غيرهم وهذا مزعج لها ويجعلها تعيش وضعا” غير مريح لجهة أنها محاطة بجغرافية من الأعداء في حين كانت تتكلم قبل ذلك عن تطبيع وتحالفات امنية ودفاعية مع دول المنطقة ولعل ما جرى في معركة طوفان الأقصى غير كلّ المعادلة وغير الصورة والمسار حيث الحديث عن دولة فلسطينية وليس صفقة قرن أو سلام اقتصادي أو اتفاقيات إبراهيمية وسقوط مقولة نصرت بالرعب فهذا الرعب انكسر وأصبحت مقولة :إن اسرائيل قابلة للهزيمة وليس قوة لا تقهر.
فالشعب الفلسطيني ثبت لها أنه هو الذي لايقهر ولم ولن يقهر لذلك نرى أن اسرائيل تريد حرباً أو تصعيداً مع الجوار أو ايران بالمقابل تدرك ايران أن اسرائيل تريد حرباً أو تصعيداً لتوقعها في الفخ وتورط اميركا في حرب معها والذي يبدو أن اميركا تدرك ذلك ولايتوفر لديها إمكانية أو رغبة لخوض حرب أخرى تستنزفها وتكون في صالح خصومها الاستراتيجيين روسيا والصين الصاعدان الأساسيان في نظام دولي جديد وتشكل موازين قوى مختلفة لذلك إضافة إلى اننا نرى ايران تتجنب تورطاً في حرب مع اسرائيل هي تريدها وبتوقيت اسرائيلي قبل استكمال مشروعها النووي دونما تخل عن ثوابتها ودعمها لمحور المقاومة ولكن ضمن حسابات استراتيجية حيث ترى ايران انها بنت خيمة قوية لا تريد هدمها أو اقتلاعها بردة فعل أو نزق سياسي وتهور لذلك وجدنا ولا حظنا تأخر الرد الايراني على استشهاد هنية لأن ثمة تفكيراً في ايران أن مقتله او اغتياله في الحسابات الاسرائيلية هدفه جرها لردة فعل يعطي فرصة لاسرائيل كي توسع دائرة الصراع في المنطقة وتجر اميركا اليها وتكون هي ذراع القوة لضرب ايران والتخلص من العقدة المستحكمة في الكيان بأن ايران تمثل الخطر الأساسي عليها فاسرائيل تريد تسريع فكرة الحرب معها لكي تتخلص من برنامجها النووي لذلك ترى ايران باعتقادنا أنه ليس من مصلحتها الدخول في حرب ليست في توقيتها مع احد الا اللهم ان فرضت عليها وهذا احتمال غير وارد حالياً ضمن معطيات الصراع الدولي واولوياته فلا حرب واسعة في المنطقة ولكن معارك بين الحروب ومناوشات كما يقال إلا اذا حدث استفزاز من نتنياهو غير قابل للتحمل او السكوت عليه وهذا وارد في ظل المأزق الذي يعيشه في غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان وعندها يبنى على كل شيء مقتضاه .