أطالع وجوه العابرين في زحام المدينة، لعل القدر يسوق لي ذلك الوجه الذي افتقدته قبل سنين طوال، أحاول أن ألتقط نظرة تشبه نظرته أو لفتة غريبة لا تتكرر في جيل كامل.
أطالع وجوهاً ترك التعب فيها أخاديد وحفراً لشقاء وتعب لا يعرفه أحد، ولم يشعر به من كان يشاركهم المأكل والمشرب وينام ويقوم معهم وهم لم ينظروا يوماً في وجهه حين يؤوب عند المساء يرمي هموم الحياة خارج الباب ويدلف إلى البيت الذي لا يمتلك فيه غير أحزانه وأمنيات خبأها لمنامات طويلة لم يتحقق أي منها.
حفرت السنون في جبينه حكايات صبايا تقاذفت الطرق مصائرهن ورمت كل واحدة في اتجاه، فتباعدت المسافات وضاعت العناوين وذبلت أزهار الحدائق وتساقطت أوراق الخريف وغادرت السنونوات سقوف المنازل العالية.
يفاجئني وجه عابس يترنح فوق جسد هده التعب يحاول أن يحرك شفتيه بشيء يشبه ابتسامة مولود فقير، فتخونه التعابير ويفشل في كل محاولاته لتظهر الكآبة عنوان اللقاء.
وفي جانب قصي يسير عاشقان يتأبطان ذراعي بعضهما بعضاً ويخفيان وجهيهما داخل ابتسامات فرح مسروقة من خزائن الجنيات، ويرسلان قهقهات مخبوءة يصل صداها قاع الوادي السحيق لترتد محمولة على لسعات برد تشرين، فتكوي وجهيهما بلهيب نيرانها، ويصل القلوب بعض من ذلك اللهيب، فتشد على إبطه وتدعوه ابحث الخطا سريعاً نحو الغابات البعيدة.
أطالع وجوهاً ترسل نظرات حيرى لا تستقيم على هدف وتتابع سيرها المعتاد دون إشغال تفكيرها بما يحيط بها، بعد سنوات طويلة من الغدو والرواح نحو عمل لا تتغير تفاصيله، أما أنا فإنني أتعب نفسي وأنا أبحث عن ذلك الوجه الذي فارقني دون تعليل، ومضى سريعاً دون أن يلتفت للخلف، وتركني ألاحق طيفه بين وجوه العابرين، وأحاول التقاطه في منامات يهرب منها وتركني لهموم ومتاعب لا تنتهي.
كان وجهاً طافحاً بالبشر الضياء، يتحرك كما البدر في السماء، لم يرق له العيش بين وجوه العابرين، فمضى مثل شعاع ، أضاء سماء حياتي زمناً، ثم مضى دون استئذان، وترك كل من خلفه يبحث عنه كل حين، والكل يعرفون أنهم لن يجدوه، لكنهم يكررون المحاولات بعيون تعبى وقلوب واجفة، فأي حزن بعد هذا الفقد يفجر ينابيع أحزان لا تنتهي.