المثقف بين الحياد والمسؤوليّة.. خضور: الثقافة صوت العقل والضمير.. د. سكر : المثقف يقتحم الشّك والأسئلة ويفي لوظيفته التاريخيّة

الثورة – عمار النعمة:

مهما عصفت بنا الأيام، يبقى المثقف الحقيقي هو البوصلة التي لا تنحرف، والضمير الذي لا يساوم، وهو الصوت الذي لا يكذب على أهله، لا يحقّ له أن يكون مجرّد مراقب صامت، ولا أن يكتفي بالحياد البارد في وجه الحقائق الحارقة.

المثقف ليس متفرّجاً، بل شاهداً وفاعلاً وموجِّهاً، كلمته يجب أن تُقال حين يُفضلُ الآخرون الصّمت، وأن تعبّر عن النّاس حين يُخنق صوتهم، من هنا، نطرح سؤالاً جوهرياً: هل يجوز للمثقّف أن يقف على الحياد؟ وهل بقي للحياد مكان في زمن أصبحت فيه الكلمة موقفاً، وهل يستطيع أن يوصل صداه الفكريّ إلى مجتمعه؟ وكيف؟.

صحيفة “الثورة “جمعت آراء بعض الأكاديميين المبدعين فكانت اللقاءات التالية:

وعي وفعل ونقد

الكاتب حسام الدين خضور عضو اتحاد الكتاب العرب بين أن: كلمة مثقف من الكلمات الإشكالية لأنها ذات روابط أصيلة بالثقافة التي تعني: “مجموعة من القيم والمعتقدات والمعارف والفنون والعادات والتقاليد والأنظمة الاجتماعيّة التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في مجتمع ما، وتنظّم سلوكه وتفكيره وطريقة تواصله مع الآخرين”.

فعندما نقول “الثقافة” قد نعني: ثقافة الفرد: مستوى تعليمه، واطلاعه، وذائقته الفنيّة، أو ثقافة المجتمع: النمط العام للحياة والفكر والتقاليد في بيئة معيّنة، أو “ثقافة العمل” مثلاً، أي القيم والسلوكيّات السائدة في مؤسسة.

أما المثقّف فهو: شخص يمتلك معرفة واسعة ووعياً نقديّاً تجاه مجتمعه والعالم حوله، لا يكتفي بفهم الواقع، بل يسعى إلى تغييره نحو الأفضل، لا يُعرَّف المثقف بشهاداته أو اطلاعه، بل بقدرته على اتخاذ موقف أخلاقي وفكري في مواجهة الظلم، أو الجهل، أو التزييف، فالمثقف الحقيقي هو صوت العقل والضمير، يستخدم كلمته وفكره ليوقظ الوعي، ويثير الأسئلة، ويدافع عن الحقيقة، وهو غالباً ما يواجه ثلاث سلطات هي السلطة الحاكمة وسلطة المال وسلطة الجمهور، لأن هدفه ليس إرضاء أحد، بل قول ما يجب قوله، فالمثقف عنصر فاعل في المجتمع، لا مجرد متفرّج.

لا يستطيع المثقف أن يبقى على الحياد، فوعيه النقدي يدفعه إلى عدم قبول الواقع، بل أن يحلّله ويفكر فيه بعمق، ومسؤوليّته الأخلاقيّة تشعره بواجبه أن يتخذ موقفاً تجاه قضايا مجتمعه ومواجهة الظلم أو الجهل أو القمع، واستقلاليّته تجعله لا يخضع لسلطة المال أو السياسة أو الجمهور، بل يتبع ضميره وعقله، وهو يعبّر عن أفكاره بالكتابة، ووسائل أخرى يحدّدها عمله ومهاراته.

حتى في عهد قريب لم تكن ممارسة المثقف مهنة بذاتها؛ لكن التكنولوجيا جعلت المثقف يعمل بطريقة مستقلة بعيداً نسبياً من السلطة السياسيّة والماليّة، ويتوجّه إلى جمهوره عبر منصات التواصل الاجتماعية، إن التكنولوجيا تحرر المثقف من أشكال السلطة التي كانت تحد من تأثيره، وهذا تطوّر ربما لم نشهد تأثيره المجتمعي واضحاً بعد في قدرة المثقف على الفعل، ولا سيما على التواصل مع الجمهور، وهو الحلقة الأهم في عمل المثقف الحقيقي.

لقد غيّرت التكنولوجيا الحديثة بشكل جذري طريقة تواصل المثقّف مع الجمهور، فبعد أن كانت الأفكار تنتقل ببطء عبر الكتب والمجلات والصحف واللقاءات الثقافية في المنتديات، غدا بإمكان المثقف اليوم أن يصل إلى جمهور واسع وفوري عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، فمنصات مثل اليوتيوب، والتويتر، والبودكاست، والمدوّنات، وفّرت أدوات قويّة لنشر الرأي والتحليل والتأثير، من دون الحاجة إلى مؤسسات تقليديّة، وتتيح التكنولوجيا للمثقّف فرصة التفاعل المباشر مع الجمهور، الأمر يعزّز ثقافة الحوار والتأثير المتبادل.

إن أدوات النشر الرقمي تُمكِّن المثقف أيضاً من تجاوز الرقابة والحدود الجغرافيّة، ليغدو صوته عالمياً، وهكذا، لم تعد المعرفة حكراً على النخبة، بل غدت متاحة للجميع، وصار المثقّف أقرب إلى الناس من أي وقت مضى، بشرط أن يحسّن استخدام هذه الأدوات بوعي ومسؤوليّة.

وإذا كانت السلطة والمال يحدان من قدرة المثقّف على الوصول إلى الشعب، فالشعبوية المعاصرة التي يمارسها بعض المثقّفين تشكل خطورة على الوعي الاجتماعي وتضلّله، وهذه مسألة تزداد خطورتها في المراحل الانتقاليّة، والحديث فيها يتطلّب مساحة أوسع.

محصّنة بتلميحاتها

” الحياد مصطلح متناقض بمفاهيمه ودلالاته الجوهرية مع مصطلح الثقافة والمثقف ووظائفهما الاجتماعية الحيوية، غير أن التعبير عن الرؤى الثقافية بالفنون والآداب، ذو تقنيات ظلّت محتاجة إلى وسطاء من المفسّرين والنقاد على مدارج التاريخ، وكان الخطر على المثقّف يزداد مع تسرّب مواقفه خارج نصوصه الثقافيّة، كما حدث مع ابن المقفع عندما صرّح بقوله خارج نصوصه الأدبيّة الفنية، إن “السكوت زين لمثله” قاصداً والياً ذا نفوذ في زمانه” بحسب

الدكتور راتب سكر، مضيفاً القول: “إن المتنفّذين في كل مكان وزمان كانوا يتغابون أمام نصوص الكتّاب والأدباء، ليقنعوا الناس أنهم خارج المقصود، حتى إذا نفد صبر المثقّف بسبب شعوره أن المجتمع لم يفهم مقاصده، “بقّ البحصة”، مصرّحاً بالمكنّى ومكنونه تصريحاً يعرّض حياته لمخاطر شتّى، ومن ذلك ما حدث مع الشّاعر عمر أبو ريشة يوم ألقى في أربعينيّات القرن العشرين، يوم مهرجان “المعرّي” قصيدته الشهيرة:

“أمّتي هل لك بين الأممِ منبرٌ للسيف أو للقلمِ” .

إلى أن وصل إلى بيته الخطير، مشيراً مع شطره الثاني إلى رئيس مجلس الوزراء في ذلك الوقت، وهو يصرخ غاضباً:

“لا يلامُ الذئبُ بعدوانهِ إن يكُ الراعي عدوّ الغنمِ”.

صفّق المشار إليه السيد رئيس الوزراء في تلك الأيام مع المصفقين كأن الأمر لا يعنيه، وإذا انتهى عمر أبو ريشة دون تحقيق الأرب، وجدته يرتجل بيته الشهير الذي قاده إلى السجن، بقوله:

“كيف تحيي أمة عزّتها وبها مثل جميل المردمِ”.

لقد ظلت الثقافة محصّنة بتلميحاتها ورموزها، وهذا ما منح كبار المثقفين في التاريخ مكاناتهم، متّقين أذى الطغاة ومخبريهم، مثمنين كتاباتهم بثروات تتحدّى أزمنة الطغاة وطغيانهم.

المثقّف الحقيقي ليس من يحتمي بالحياد، بل من يقتحم منطقة الشّك والقلق، لينتج أسئلته، ويظلّ وفيّاً لوظيفته التاريخيّة: كشف الزيف، وفتح نوافذ الأمل، في زمن يغصّ بالضجيج والتضليل.

ما الفائدة من ثقافة لا تدفع إلى التغيير

الدكتور وليد السراقبي رأى أنه في زمن كثرت فيه الشهادات وقلّ فيه الوعي، يبرز التساؤل الجوهري: من هو المثقف؟ وهل يكفي أن نمتلك المعرفة لننتمي إلى هذه الصفة؟ فيقدّم إجابة رصينة عن هذا السؤال، منطلقاً من أصل الكلمة وجوهر معناها، ثم محلّقاً في فضاء الفكر والمجتمع.

وقال: إذا استشرنا المعجمات اللغويّة لمعرفة أصل دلالة الثقافة فإننا نقرأ في الجذر (ث ق ف ) الثاء والقاف والفاء كلمة واحدة إليها يرجع الفروع، وهو إقامة درْءِ الشيء، ويقال : ثقّفتُ القناة إذا أقمت عِوَجها .

قال : نَظرَ المثقّف في كعوب قناته.. حتى يُقيم ثِقَافُه منآدها .

ورجل ثقفُ لقفُ، وذلك أن يصيب علم ما يسمعه على استواء، وثمة فرقٌ واضحٌ بين الثقافة والعلم، فكم من متعلم لايعرف إلا ما تراكم في ذهنه من معارف وعلوم، فالثقافة حال وعي وريادة لا تراكم معلوماتي، إن المثقف هو الذي يتحلّى بوعي يستطيع به أن يتملّى الواقع لا ليعيش في طياته، ولا ليكرسه.

ولكنه وعي يحمله على رفض الواقع المدنّس بالإخفاق، ولا يميل إلى ماضٍ هو سبب في حاضر مرّ، ذلك أن حلم المثقّف هو الآتي، هو المستقبل الحضاري المشرق.

والمثقف هو الذي يعي حاضره، ويدرك ببصيرة نافذة أسباب الإخفاقات الماضوية، ويعمل على أن يكون جزءاً من تيار، وبعضاً من مجموعة يضبط حركته معها، ويعمل على صقل وعي الناس ويسهم في رفع مستوى هذا الوعي .

وبناء على ما يمتلكه المثقف من وعي، وعلى إسهامه في صقل وجدان الجماعة، لا يمكن للمثقف أن يبقى على الحياد، إذ ما الفائدة من ثقافة لا تدفع إلى التغيير السلوكي والوجداني؟ وماذا يفيد المجتمع إذا كان لا يأخذ بيده إلى سمو وجداني؟ أو كان منفصلاً عن تيار الجماعة بعيداً عن لفحاتها؟.

واختتم بالقول: لن يستطيع مثقف ما أن يوصل صدى فكره وثقافته إلى مجتمعه إذا بقي متمرّساً وراء انعزاليّته الثقافيّة، أو بقي يشعر بعلوّ عن تيار الجماعة التي يعايشها ويساكنها، أو بقي في برجه العاجي، فلا بد له من تلمّس الأدواء للمساهمة في وصف الأدوية، والأخذ بيد المجتمع إلى نجاح تلو آخر، لكن لا يعني ذلك أن ينصّب نفسه نائباً ليتكلم ويقمعهم بتنظيرات جوفاء، لكن بالانخراط في تيار المجتمع والنزول من البرج العاجي.

آخر الأخبار
نزيه شموط لـ"الثورة": الأسواق المجاورة لا تزال مغلقة أمام المنتجات السورية بائعو الخبز.. من الحاجة إلى الكسب وأطفال من التحصيل العلمي إلى المادي دعم الأبناء في مواجهة نتائج الشهادة الإعدادية.. توجيهات للأهالي تحسين بيئة السوق والبنية التحتية بسوق الهال في حلب  ماذا قد يعني انتهاء العقوبات الأميركية على قطاع التراث في سوريا؟  هل تستطيع سوريا إعادة بناء اقتصادها من رماد الحرب؟ إلغاء شرط الإيداع الإلزامي خطوة لتعزيز الثقة بالقطاع المصرفي "فوربس" الأميركية: التدخلات الخارجية تعرقل مستقبل سوريا "شفاء 2".. عمليات جراحية نوعية بمستشفى الرازي في حلب نتنياهو قرر احتلال قطاع غزة بالكامل الرئيس الروسي يجدد تأكيد أهمية دعم وحدة وسيادة سوريا 10 اتفاقيات جديدة تعزز العلاقات الاقتصادية السورية التركية توفير الأجواء المثلى لامتحانات طلبة المعاهد التقانية بحلب تطوير واقع خدمة الركاب والنقل بدرعا بحث إقامة مراكز إيواء لمهجري عرب السويداء في درعا إزالة الركام من طريق الجمرك القديم بدرعا البلد بين التعثر والعقوبات.. المقاول السوري مستعد للإعمار وينتظر فك القيود أحمد منصور.. صديق الغزلان و الطيور الشرع لـ مستشار الأمن القومي البريطاني: سوريا منفتحة على أي مبادرات تدعم أمن المنطقة واستقرارها سد الحويز.. ينقذ موسم الحمضيات في ريف جبلة