“كسر الزجاج ” في ليلة الأول من تموز.. طقس شعبي يرفض الاندثار

الثورة – ميساء السليمان:

في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتلاشى العادات أمام الحداثة، تصر بعض الطقوس الشعبية على البقاء.. ليلة الأول من تموز، موعد سنوي لا ينتظره الناس لمتابعة حدث سياسي أو فلكي، بل لممارسة طقس غريب وقديم: كسر الزجاج في منتصف الليل، وكأنهم يكسرون معه النحس وكل أوجاع العام.

يبدأ بالصمت وينفجر بزجاج مكسور في مناطق متعددة من سوريا، لبنان، العراق، وحتى فلسطين المحتلة، تعيش بعض العائلات ليلة 30 حزيران 1 تموز على وقع استعدادات مختلفة، إخراج كؤوس قديمة، صحون مشروخة، زجاجات بلا قيمة، و”تحضير النية” لكسر الشرّ كما يسمونه.

ففي الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، يبدأ الطقس، يُرمى الزجاج على الأرض أو من الشرفات، يتبعها هتافات مثل: “انكسر الشر”، “الله لا يردّو”، ويُقال إن من يكسر أكثر “يخلص أكثر من همّه”.

ترتبط هذه العادة بموروثات بابلية وآشورية قديمة، حين كانت الآلهة تُجسد دورات الحياة والموت والخصب والجفاف.

الإله “تمّوز” أو “دوموزي”، الذي تمثل تموز باسمه، كان رمزاً للخصوبة، ويُقال إنه يُقتل في بداية الصيف وتبكيه الأرض، ثم يُبعث لاحقاً.

كسر الزجاج، بحسب بعض الباحثين، يُعد طقساً رمزياً مرتبطاً بهذا “الموت والبعث”، وكأن الناس يشاركون في دورة الحياة بطريقتهم: يكسرون الزجاج ليُبعث الحظ من جديد.

بين إيمان خالص وسخرية مريرة

سليمان (60 عاماً – القامشلي) يقول: مذ كنت صغيراً وأنا أرى أمي وجدتي يكسرون طاسة، أو إبريقاً مكسوراً من تحت، ويقولوا “كسرنا الشر”.. كانت لحظة فيها مهابة صراحة حتى لو كنت غير مؤمن فيها مئة بالمئة، بكسر شي صغير حتى لا أشعر أو أحس إني كسرت السلسلة بيني وبين أهلي”.

روان (26 عاماً – ريف دمشق)، تشير حول ذلك بقولها:”هي عادة فريدة تجمع بين الرمز والاحتفال، أنا وصديقاتي من السهل أن نقوم بها كنوع من الطقس النفسي، بحيث نشتري كأساً من محلات الألف ليرة، ونكسرها ونضحك.. فهي أقرب لتطهير داخلي، من كونها عادة سحرية”.

الأستاذ سامر (مدرّس تاريخ – دمشق)، يوضح أن هكذا عادات تكشف كيف يحاول الإنسان أن يسيطر على المجهول، مثل كسر الزجاج ليس كفعل عبثي، بل تعبير عن الرغبة في ‘حذف الماضي السيئ’; حسب تعبيره وفتح صفحة جديدة، حتى لو لم تؤمن بها فعلياً، فهي وسيلة شعبية رمزية”.

رولا (أم لطفلين – حمص) أشارت إلى أن “أولادها يتحمسون لهذه المناسبة، وينتظرون أول ليلة بشهر تموز كي يقومون بفعل التكسير معاً، وفرصة للحديث فيها عن الخوف، وعن الأشياء التي سوف نتركها وراءنا، وحتى عن الشكر للسنة الفائتة، ومع أنها عادة قديمة، من الممكن أن تتحول إلى شي تربوي”.

غير محبذ

فيما جهاد (18 سنة – حلب) يرى أن هذه العادة غير محبذة ويصفها بالطقس “السخيف”، لماذا نكسر كأس ونقول خلصنا من الشر؟ هل هذا منطق، مع ذلك يعترف بكل صراحة، إنها ممتعة حين شاركها مع الجيران، حيث شعر بجو مختلف عن بقية أيام السنة، كأنها طريقة للضحك رغم كل التعب”.

وكذلك الحالة بالنسبة للسيدة ميسون (50 عاماً – طرطوس) والتي تكسر الزجاج بهدوء لكن من دون ضجة، وتقول دعاء، كأنها لحظة صفاء، “لا فيها سحر ولا شعوذة، بل فيها متعة وتفريغ”.

متجذرة بالوعي الجمعي

وانطلاقاً مما سبق فإن وجهة نظر علم الاجتماع: فإن الزجاج حين يُكسر، كي تبقى الجماعة متماسكة، وهنا توضح الباحثة الاجتماعية غفران العوض بأن “عادة كسر الزجاج في بداية تموز تُعد من الطقوس الرمزية المتجذّرة في الوعي الجمعي الشعبي، وهي تحمل وظيفة اجتماعية تتجاوز الفعل الظاهري المتمثل بكسر كأس أو صحن.. إنها وسيلة غير واعية للتعبير عن الحاجة لتجديد الحياة، والتخلص مما يُعتبر سلبياً أو ثقيلاً في النفس والمجتمع.

وأضافت: هذا النوع من الطقوس يُصنّف علمياً ضمن ما يُعرف بـ”طقوس العبور الرمزية”، والتي تمثل انتقالاً من حالة إلى أخرى، في هذه الحالة: من سنة مثقلة بالتعب أو الأحداث إلى سنة يُراد لها أن تكون أفضل.

ويكمن ذكاء هذه العادة في بساطتها، إذ إنها لا تتطلب أدوات معقدة، بل فقط نية وتكرار رمزي، وقالت عوض ما يثير الاهتمام هو أن هذه العادة بقيت حيّة رغم التغيرات الاجتماعية، حتى بين الأجيال الجديدة، لكن بدلالات مختلفة، البعض يُمارسها بوعي تراثي، والبعض الآخر يراها فرصة للضحك أو الترفيه، لكنها تظل تؤدي نفس الغرض: إحساس جماعي بالخلاص والانطلاق.

باختصار.. يجب ألا نُقارب هذه العادة من زاوية الخرافة فقط، بل من منطلق أنها وسيلة للتكافل النفسي والاجتماعي، وتعبير عن حاجة بشرية عميقة لتوديع ما هو سلبي، حتى ولو بكأسٍ مكسور”.

في النهاية.. سواء أكان كسر الزجاج عادة خرافية أم طقساً رمزياً، فقد بات جزءاً من ذاكرة الشعوب، وسلوكاً يربط الحاضر بالماضي، لا يُشترط أن نؤمن به، لكن لا يمكن إنكار ما يرمز له: الرغبة العميقة في طرد الشر، كسره، والمضي نحو الأمل.

آخر الأخبار
صيانة 300 مقعد دراسي في مدرسة المتفوقين بحمص معالجة التعديات على عقارات المهجرين.. حلب تُفعّل لجنة "الغصب البيّن" لجنة فنية تكشف على مستودعات بترول حماة الشمس اليوم ولاحقاً الرياح.. الطاقات المستدامة والنظيفة في دائرة الاستثمار صياغة جديدة لقانون جديد للخدمة المدنية ..  خطوة مهمة  لإصلاح وظيفي جذري أكثر شفافية "الشباب السوري ومستقبل العمل".. حوار تفاعلي في جامعة اللاذقية مناقشات الجهاز المركزي مع البنك الدولي.. اعتماد أدوات التدقيق الرقمي وتقييم SAI-PMF هكذا تُدار الامتحانات.. تصحيح موحّد.. وعدالة مضمونة حلاق لـ "الثورة": سلالم التصحيح ضمانة للعدالة التعليمية وجودة التقييم "أطباء بلا حدود" تبحث الواقع الصحي في درعا نهضة جديدة..إقبال على مقاسم صناعية بالشيخ نجار وزير الخارجية اللبناني: رفع العقوبات عن سوريا يساعدها بتسريع الإعمار ترميم قلعة حلب وحفظ تاريخها العريق محافظ درعا يتفقد امتحانات المعهد الفندقي "الطوارئ والكوارث": أكثر من 1500 حريق و50 فريق إطفاء على خطوط المواجهة دول الخليج تتوحد في تقديم المساعدة والاستثمار في سوريا واشنطن تتحدث عن السلام.. هل يلتزم الاحتلال الإسرائيلي بوقف اعتداءاته؟ سوريا تطلق إصلاحات السوق لجذب المزيد من الاستثمارات وتحفيز إعادة الإعمار نقابة المهندسين الأردنيين: إعمار سوريا استحقاق يتطلب تضافر الجهود عربياً ودولياً بين الحصار والانفراج.. هل تفتح المصارف السورية أبواب العالم؟