الثورة – رانيا حكمت صقر:
عندما يصبح الدقيق وطناً.. وكل حبة طحين شهادة ميلاد جديدة، الكاميرا التي أرعبتهم أكثر من الرصاص.. في زوايا غزة المُحطمة، حيث تتحول عيون الأطفال إلى خرائط جوعٍ، جثا ذلك الطفل على أرض الشاحنة كأنه يصلي على مذبح الإنسانية. تلك اليد الصغيرة التي التقطت حبات الدقيق المتناثرة كاللآلئ المرمية على تراب الإهمال لم تكن تبحث عن طعام فحسب، بل كانت تنقش بدمها صرخةً في جدار الصمت العالمي هل رأيتم طفلاً يولد مرتين؟ مرة من رحم أمه، ومرة من رحم الجوع كما وصفه محمود درويش “كيف تُشبع جوعَ طفلٍ لم يَعُدْ في عينيه إلا بياض المجاعة”. فلم يكن “الطفل المجهول” يمسك بالطحين وحسب، بل كان يمسك بجوهرة تاج الإنسانية.
إنها ليست حبات دقيق، بل حبات عمرٍ سُرقت من عظام أطفالٍ صار الهزال لغتهم الأم، وصراخ البطون لغتهم الوحيدة.. “طفل الطحين” ليس مجرد صورة بل هو صرخةٌ تُجسِّد كلمات الشاعر عبد الوهاب البياتي:”الجوعُ موطني.. والجوعُ كتابي.. والجوعُ في عظامي كنارِ”. فالطحين الذي صار دماً.. كل كيس يُنتزع من الشاحنات يتحول إلى سفرٍ من الأسرار، هكذا عبر أطفال غزة بالكلمات التي تطعن إنسانيتنا “أبي مات وهو يحضن كيس الطحين.. قال إنه بيتنا الجديد” و” يدٌ صغيرةٌ ترسم خريطة العار على وجه الأرض، بينما يدٌ عسكريةٌ ترسم حدود الموت على شاحنات الحياة”.”الهزال” ليس مجرد رقمٌ في تقريرٍ، بل أطفالٌ صاروا أشباحاً تمشي في وضح النهار” كما وصفهم طبيب سجل الموتى في غزة: “الأطفال لا يموتون هنا.. يذوبون” وقال: انظروا إلى رضيعٍ مات وهو يرشف دموع أمه: بعد أن تحول لبنها إلى غبار، وطفلٌ انكسر ظهره ليس بقنبلةٍ، بل بحمل كيس دقيقٍ أثقل من عمره، فعندما تنطفئ مصابيح العقل من نقص الغلوكوز، تصير براءة الأطفال شمعةً تحترق في مذبح المجاعة. وكيف ننسى مقولة درويش “أنا الجائعُ الذي يأكلُ ترابَ الوطنِ كي لا يرى وجهَ الذلِّ في مرآة الخبزِ”.
كاميرا مقابل رغيف
في صورة أخرى نستذكر الصحفي “بشير أبو الشعر” عندما باع كاميرته، وهو القائل: “لم أعد أرى العالم عدسةً.. بل أراه من ثقب جوع أطفالي”. فيما الأم مثل كل الأمهات التي صارت قبلةً للجوع، تقول أم محمد وهي تلف جسد رضيعها بخرقةٍ مبللةٍ، “الماء سرير ابني والريح غطاؤه فمن يخبر الشمس ألا تطلع كي لا تذوب أشلاؤه. أما الأب الذي صار حكاية “أحمد ياسين” الذي سقط على كيس الدقيق، ودعته زوجته قائلةً: اذهب.. فإما أن تعود بالخبز، أو نرجع كلنا إليك.
صمتٌ يقتل مرتين “يموت الطفل جوعاً، ويموت معه كل من صمت عنه “مقولةٌ منقوشةٌ على جدار في خان يونس”، في الزمن الذي صار فيه “كيس الطحين” وطناً، و”حبات الدقيق” عملةً للحياة، لم يعد “طفل الطحين” مجرد صورة، بل صار مرآةً تكسر وجه الإنسانية كل صباح. هذا الجوع ليس طبيعياً، إنه جريمة تكتب بحبرٍ أسود على ورقٍ أبيض، ” قتلتم الطفل مرتين، مرةً عندما سلبتُم خبزه، ومرةً عندما جعلتم موته خبراً عادياً في شاشاتكم” هذا ما حذر منه أدونيس. فلننتبه جيداً.. التاريخ لا يسألنا لماذا لم ننتصر.. بل يسألنا كيف تجرأنا على الصمت؟ “فيوم يموت طفلٌ جوعاً.. يولد إبليس في كل لغة سكتت من قصيدة- مرثية لطفل الخبز..
أيتها الأرض..
سجّلي.. هنا رقد طفلٌ ماتَ
لأنّ العالم كان صحناً ذهبياً
يأكلُ فيهِ السادةُ لحمَ الأبرياءِ.